تونس | أجهز حزب «نداء تونس» بضربة يمكن أن تكون قاضية على أطراف تعتبر من «العائلة الديموقراطية» في تونس، قبل أن يمضي في التغلب على خصمه الأساسي «حركة النهضة». جلّ الأحزاب التي تحالفت يوماً مع «النداء» أو ناصرت قيامه، تجد نفسها اليوم خارج البرلمان الأول بعد خروج زين العابدين بن علي من السلطة، فيما يبدو أنها تيقنت أن مراجعة نقدية يجب أن تُجرى في أقرب الآجال.

وتبرز من بين تلك الأطراف مكونات من داخل ائتلاف «الاتحاد من أجل تونس»، و«الحزب الجمهوري»، إضافة إلى ثالثة دعائم «ترويكا الحكم»، أي «التكتل من أجل العمل والحريات». وكانت تلك الأطراف قد حصدت في «المجلس الوطني التأسيسي» (عام 2011) نحو 40 مقعداً، فيما حصلت اليوم على ثلاثة مقاعد، فقط.
وتأتي الخسارة الانتخابية بعد دور تلك المكونات المهم في صياغة الدستور الجديد والحرص على تضمين قيم الدولة المدنية فيه، وبعدما توقعت أن يكون لها نصيب مهم من المقاعد في أول مؤسسة تشريعية منتخبة ديموقراطياً. لكن نتائج الانتخابات بددت كل توقعاتها. امتنع التونسيون عن التصويت لها ولقائماتها وخرجت بذلك من الباحة الخلفية للمشهد السياسي، فما الذي يجعل التونسيين يتخلون عن أحزاب لها باع طويل في العمل السياسي، وقد صارعت سابقاً القمع خلال حقبة بن علي وكانت في مقدمة المطالبين بالحرية وبالديموقراطية؟
خلال العامين الماضيين، اصطفت بعض الأحزاب التونسية الوسطية إلى جانب حزب «نداء تونس»، وكانت تقارع «حركة النهضة» عبر تخويف التونسيين من النمط المجتمعي الذي تسعى هذه الأخيرة إلى إقامته في تونس، وهو ما يسمى مشروع «أخونة تونس». ودعت في خطاباتها إلى ضرورة الاصطفاف وراء قوة ديموقراطية ذات مشروع مدني يماثل وزن «حركة النهضة». لكن في المقابل، هي لم تقدم نفسها بديلاً، بل قوّت الاستقطاب الثنائي (إسلاميين ـ علمانيين) وغذته واستبسلت في الدفاع عنه. وغذى تكوين ذاك الاستقطاب «رسكلة» (إعادة إحياء) بقايا نظام بن علي.
وتعترف قيادات «المسار الديموقراطي» (وهو حزب من ضمن ائتلاف الاتحاد من أجل تونس) بأنها دفعت ثمن تقاربها مع «نداء تونس». وفي حديث لـ«الأخبار»، يفسر القيادي في «المسار»، الجنيدي عبد الجواد، أن حزبه «دفع ثمن تمسكه بالاتحاد من أجل تونس»، على اعتبار أن الائتلاف المذكور تأسس خلال الأزمة السياسية أواخر عام 2012، وضم في حينه «نداء تونس» و«الجمهوري» و«الحزب الاشتراكي» و«حزب العمل الوطني الديموقراطي»، إلا أنه لم يتحول إلى ائتلاف انتخابي.
ويوضح الجنيدي عبد الجواد أن «نداء تونس روّج أن التصويت للاتحاد من أجل تونس وغيره من القوى الديموقراطية يعتبر تصويتاً غير ذي جدوى سيقوي حركة النهضة، وأن من يريد حماية تونس من مشروع الأخونة عليه أن ينتخب قائمات النداء، وهو ما حصل». ويضيف أن «نداء تونس قاد حملة ضدنا، رافعاً شعار التصويت المفيد (vote utile). كان من المفروض أن يساند قائماتنا، لكنه شنّ حملة علينا واعتبر التصويت لفائدتنا تشتيتاً للأصوات، وهو ما جعل مناصرينا يسندون أصواتهم لقائماته». ويؤكد الجنيدي أن «مجلساً مركزياً سيعقد قريباً داخل الحزب (المسار)، هدفه النظر في الأخطاء الماضية، وتقييم التجربة التي كانت قاسية جداً».
ويعتبر أيضاً من بين أكبر المتضررين من عملية إنتاج «الاستقطاب الثنائي» داخل الساحة التونسية، «الحزب الجمهوري» والحزب المتفرع عنه «التحالف الديموقراطي»، اللذان لم يحصلا إلا على مقعد واحد. هما حزبان ينقصهما المال والموارد البشرية، أي العنصران اللذان تتميز بهما كل من «نداء تونس» و«حركة النهضة». ويواجه الحزبان واقعاً قاسياً، خصوصاً أن لهما مرشحين للانتخابات الرئاسية المقبلة.
ولطالما اتُّهِم «الجمهوري» بهيمنة القيادة التاريخية على اتخاذ القرار ضمنه (أحمد نجيب الشابي، عصام الشابي ومية الجريبي)، الأمر الذي جعل عدداً من قيادييه ينفضّون من حوله ويكوّنون حزب «التحالف الديموقراطي»، ثم ازداد تفتته بخروج فئة شكلت في وقت لاحق حزب «آفاق تونس». واتُّهم كذلك الحزب بالتقارب مع «حركة النهضة» و«خدمة مواقفها» و«ضرب وحدة موقف العائلة الديموقراطية، الصورة التي أضرت على ما يبدو بالحزب. لكن الأمينة العامة لـ«الجمهوري»، مية الجريبي، تؤكد أن المال السياسي أدى دوراً مهماً في تعزيز حظوظ أحزاب على حساب أخرى.
من جهته، وفي حديث لـ«الأخبار»، يشرح عضو «التحالف الديموقراطي»، محمود البارودي، أن السبب الرئيسي الكامن وراء التراجع يتمثل بقيام الانتخابات على «التخويف» من طرف سياسي معين (حركة النهضة)، مضيفاً أن «الحزب الذي راهن على هذا العامل هو الذي فاز بالغالبية النيابية».
أما حزب «التكتل من أجل العمل والحريات» بزعامة رئيس المجلس الوطني التأسيسي، مصطفى بن جعفر، فهو لم يدخل فعلياً في لعبة الاستقطاب بين «إسلاميين» و«علمانيين»، بل كان شريكاً لـ«النهضة» في الحكم، وأخفق إخفاقاً شديداً خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة (مقعد واحد). ويقول في حديث لـ«الأخبار»، المتحدث الرسمي باسم «التكتل» محمد بنور، إن «من المؤسف أن نرى المناضلين الحقيقيين في العهد السابق خارج أول برلمان بعد الثورة... وهي المصيبة الكبرى».
عموماً، وقفت الأحزاب الأربعة على الخلاصة ذاتها: وجوب إجراء مراجعة نقدية للبنى وللمواقف، فيما يصرّ جميعهم على أن حزب «نداء تونس» استغل خوف التونسيين من «مشروع الأخونة» ليحيل دفة الناخبين نحوه، مسبباً بذلك حرمانَ العائلة الوسطية الديموقراطية أولَ برلمان ديموقراطي حر.