غزة | لا تعرف الساحة الفلسطينية السكون أو الرتابة. فزخم الأحداث في المشهد الفلسطيني كفيلٌ بجعل ما كان حتى الأمس القريب حدثاً مركزياً، طيّ النسيان اليوم. هكذا، أزاحت ارتدادات الحرب الأخيرة على غزّة وملفاتها العالقة، قضية الأسرى من الواجهة السياسية والإعلامية.
سامر العيساوي والشيخ خضر عدنان، "الأيقونتان" اللتان اقترنتا بمعركة "الأمعاء الخاوية" يقبعان حالياً في السجون الاسرائيلية من دون صخب إعلامي أو حراك فعّال في الشارع.

العيساوي، الأسير المقدسي الذي تجاوز الرقم القياسي في مدّة الإضراب عن الطعام (9 شهور)، لا يلتفّ حول قضيّته الآن سوى دائرة ضيّقة ومعظمها منخرط عملياً في الحقل الحقوقيّ. الحال نفسها تنسحب على الشيخ عدنان، أحد أبرز قادة «الجهاد الإسلامي» في الضفة المحتلة، والموسوم بالعناد وصلابة الموقف في غرف التحقيق.
حالة الركود التي أصابت الشارع الفلسطيني اتجاه الأسرى، قد يجد بعضهم مسوّغات لها، أهمُّها أن غزة عاجزة عن التقاط أنفاسها والتفكير في قضايا أبعد من حدود حياتها اليومية الصعبة، بالإضافة إلى أن إهمال الإعلام الفلسطيني هذه القضية، أوقف عجلة التفاعل الشعبي معها.
أمّا في الضفة، فيبدو أن الحنق الذي يثيره مشهد المسيرات والاعتصامات الموسمية الداعمة للأسرى لدى الأجهزة الأمنية التي تسابق العدو في اعتقال المقاومين، هيّأ المناخ لقتل الاحتجاجات في مهدها.
كل هذا التهميش يأتي بعدما شنّ العدو حملة واسعة من الاعتقالات، طاولت الصفوف الأولى من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» من قادة ونوّاب في المجلس التشريعي، عقب حادثة فقدان ثلاثة من المستوطنين في شهر حزيران الماضي في الخليل. هذه الحادثة التي هزّت أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، كانت كفيلة بإصابة العدو بـ«هستيريا» إعادة اعتقال أسرى «صفقة شاليط»2011، وهو خرق للتفاهمات وبنود الصفقة التي رعتها القاهرة.
كانت فرصة ثمينة سرعان ما استغلها العدوّ وأوجد لها مظلّة قانونية بموجب القرار (1651) القاضي بـ«إعادة اعتقال الأسرى المحررين حتى انقضاء مدّة محكوميتهم الأصلية حال ارتكابهم أيّ مخالفة». قرار منح العدو فرصة الوقوف على أرضيّة قانونية صلبة لاعتقال 63 أسيراً محرراً منذ حزيران، ثم جاءت الحرب وانتهت ولا يزال هؤلاء قيد الاعتقال حتى اللحظة، وبينهم 3 أسيرات هن: منى قعدان، وبشرى الطويل، وشيرين العيساوي (شقيقة سامر).
تقصّ والدة الأسير سامر العيساوي لـ«الأخبار» تجربتها المريرة مع أسر أبنائها، قائلةً: «قلبي يحترق على ابنيّ الأسيرين سامر ومدحت وابنتي المحامية شيرين التي تقبع في عزلها الانفرادي منذ أيار الماضي، من دون محاكمة فعليّة لهم أو تفعيل قضيتهم في الإعلام والشارع».
وبحرقة بالغة، تخبرنا والدة العيساوي أن ابنها سامر (سجن جلبوع) يعاني حالياً آلاماً مزمنة في الرأس والظهر والكلى، وخصوصاً أنه لم يكد يتعافى من الأزمات الصحية التي ضربته تباعاً جرّاء إضرابه عن الطعام لتسعة أشهر، مضيفةً: «العناية الطبية في السجون تتهاوى، حتى إن كمية وجودة الطعام باتتا رديئتين للغاية بعد الحرب على غزّة، ما يجبر الأسرى على شراء حاجياتهم من الكانتين (دكان صغير)».
أما عن تراجع قضية الأسرى إلى الخلف، فتعزو العيساوي ذلك إلى حالة التراخي التي تنتاب المؤسسات الحقوقية تحديداً، وتقليص فعالياتها الجماهيرية والميدانية وتأخّرها في تفريغ المحامين للأسرى مثلما حدث مع ابنها سامر، إضافةً إلى خوف الشارع من الملاحقة والاعتقال. ولا تغفل أيضاً أن الكارثة التي حلّت بغزة أدت الدور المحوريّ في خفوت الوهج الإعلامي المسلط على قضية الأسرى، «حتى أنا كدت أن أنسى قضية أبنائي أمام حجم الدماء التي أسيلت بغزّة! الحرب انتهت لكن قضية إعادة الإعمار تستنزف الشارع والإعلام».
يتقاطع كلامها مع ما قاله والد الشيخ الأسير خضر، ويدعى موسى عدنان، الذي أوضح لـ«الأخبار» أنّ «الشارع الفلسطيني باختلاف مكوّناته وألوانه السياسية تتجّه أنظاره حاليّاً نحو القطاع، الأمر الذي أدى إلى عزوف كثيرين عن قضية الأسرى»، لافتاً إلى أن العدوّ لم يسمح لعائلته ـ باستثناء ابنتيه معالي وبيسان ـ بزيارة عدنان منذ اعتقاله، ما دفع بها إلى تقديم شكوى رسمية إلى «اللجنة الدولية للصليب الأحمر».
من جهتها، قالت رندا موسى، وهي زوجة الأسير عدنان، لـ«الأخبار» إن زوجها سيخوض معركة «الأمعاء الخاوية» مجدّداً في حال تجديد حكم الاعتقال الإداري بحقّه في كانون الثاني المقبل، لكنها ترفض تعليق أزمة التراخي والركود بالتعاطي مع الأسرى على «شماعة» السلطة، قائلةً بحماسة عالية: «لم تكن السلطة يوماً وراء هذا الخمول القاتل... من يؤمن بهذه القضية، عليه أن يواجه السلطة ويخرج إلى الشارع، حتى وإن كان ثمن ذلك الاعتقال، فالحرية ليست مجانية».
كذلك، لم يتمكّن الوفد الفلسطيني المفاوض، خلال محادثات وقف إطلاق النار في القاهرة، من انتزاع أي ضمانات حقيقية بالافراج عن أسرى «صفقة شاليط»، أو منع اعتقالهم مجدداً، لكن يبدو أن حركة «حماس» تخبّئ إحدى أهم أوراقها في ما يتعلّق بتبادل الأسرى لإشهارها في الأيام المقبلة.
على الطرف المقابل، ووسط الطمأنة الحمساوية التي ترشح إلى الإعلام بين فينة وأخرى، يستغل العدو الجمود الحالي في التعاطي مع قضية الأسرى وتوجه الأنظار صوب القدس، لرفع منسوب القمع داخل السجون إلى الذروة، إذ قرر المسؤول الأمني لمصلحة السجون الاسرائيلية، أخيراً، رفع الحظر على استخدام قوات اقتحام السجون الأسلحة النارية أثناء تفتيشها لغرف الأسرى. ويلفت المتحدث الإعلامي لـ«المركز الفلسطيني لدراسات الأسرى» رياض الأشقر، في حديثه لـ«الأخبار»، إلى أنّ التضييق على محرري «وفاء الأحرار»، وتحديداً ممن خاضوا معركة الإضراب، لم يكن من إفرازات مقتل المستوطنين الثلاثة بصورة مباشرة، بل تشكّلت وجوهه بعد إتمام الصفقة بشهرين بذريعة أنهم لم يحضروا إلى مقار الإدارة المدنية، أو خروجهم من مناطق سكنهم. واسترجع الأشقر مسلسل الاعتقالات الطويل الذي بدأ العدوّ أولى حلقاته مع الأسير المحرر أيمن الشراونة، نهاية كانون الثاني عام 2012، أي بعد ثلاثة شهور من إتمام الصفقة.