القاهرة شتاء سياسي قارس. سبات إجباري لعملية التحول الديموقراطي العرجاء. منطقة عازلة في سيناء المضطربة، وتهجير استثنائي للمدنيين هناك. إعلامٌ يكمّ الأفواه، ويشوّه المعارضين، وصحافة تتخلى عن كل شيء وتتعسكر حتى لا تسقط الدولة. مصر مختلفة خرجت من رحم مذبحة «كرم القواديس» الأخيرة في سيناء.
العاصفة الأولى لشتاء مصر هبّت من نوافذ السلطة، التي تلقفت هول ما جرى في «كرم القواديس»، وأعادت رمي الكرة في الشباك. العسكرة ماضية بسرعة. الرئيس عبد الفتاح السيسي يصدر قراراً جمهورياً يفتح الباب لمحاكمة المواطنين أمام القضاء العسكري. المادة الأولى من القانون، تأمر «بنشر الجيش في الشوارع، وحول المنشآت العامة والحيوية، بما في ذلك محطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقوق البترول وخطوط السكك الحديدية وشبكات الطرق والكباري، وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة، وما يدخل في حكمها، وتعد هذه المنشآت في حكم المنشآت العسكرية طوال فترة التأمين والحماية».
المادة الثانية: «إخضاع الجرائم التي تقع على هذه المنشآت لاختصاص القضاء العسكري، وعلى النيابة العامة إحالة القضايا المتعلقة بهذه الجرائم إلى النيابة العسكرية المختصة».
إنّ كلّ قضايا التظاهر السياسي، بما فيها الاحتجاجات الفئوية، وفقاً لما هو مفهوم حتى الآن، سوف يخضع المشاركون فيها للقضاء العسكري، علاوة على قضايا «الإخوان» التي تنظرها المحاكم المصرية العادية. وقد لاقى القرار ترحيباً من وسائل إعلام، ودوائر حزبية. الأحزاب السياسية (الموالاة وبعض المعارضة الشكلية) تدشّن الجبهة الوطنية ضد الإرهاب، استدعاءً جديداً لوجوه جبهة الإنقاذ التي قادت «انتفاضة 30 يونيو»، ضد «الإخوان». كلام متواتر حول أنّ هذه الجبهة ستكون ظهيراً سياسياً للدولة الوطنية. وقد علمت «الأخبار» من داخل هذه الجبهة، أنّ ثمّة اتجاها يُمهّد الطريق لتأجيل موعد الاقتراع النيابي، وهو آخر نقطة في «خارطة الطريق».
قلق كبير يعتري أوساط المدافعين عن حقوق الإنسان، من دون اهتمام بهذا الطرف أو ذاك. يقول السفير علاء يوسف، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، «إنّ القرار يهدف لتأمين الجبهة الداخلية في مواجهة الإرهاب، وقد صدر بعد موافقة مجلس الدفاع الوطني والحكومة، وبناءً على ما ارتآه مجلس الدولة».
العاصفة الثانية تقترب من جدران الجامعات المصرية التي فشلت الدولة، حتى الآن، بالسيطرة على تظاهراتها. مصادر مطلعة، قالت: إنه «طبقاً للقرار السابق ذكره، فإن الجيش قد يتدخل مع الشرطة لمواجهة تظاهرات الطلبة المناوئين للسلطة». المصادر تقول إنّ الأمر لا يزال محلّ دراسة من القيادات الأمنية في وزارتي الداخلية والدفاع، وخصوصاً أنّ تجربة شركة «فالكون» الخاصة، تحتاج إلى بعض الوقت للحكم عليها، «فهي ناجحة في بعض الأماكن، وفاشلة في أماكن أخرى»، لكن ما يؤكده المصدر هو أن «الطلاب الذين سيُقبض عليهم خلال التظاهرات، سوف يجري تحويلهم على القضاء العسكري فورًا».
الشتاء القارس، معلوم، لدى العديد من المنظمات الحقوقية، التي أوشكت أن تغلق أبوابها، قبيل انقضاء المهلة (10 نوفمبر المقبل) والتي رفضت وزارة التضامن الاجتماعي تجديدها. إغلاق غير مرتبط، فقط، بأوضاع قانونية جديدة، لكن بحسب ما يقول مجدي عبد الفتاح، مدير مؤسسة البيت العربي لحقوق الإنسان: «مرتبط أيضاً بمناخ سياسي وعسكري، يصعب معه، الدفاع عن فكرة حقوق الإنسان، في زمن مواجهة الإرهاب. شيء آخر. المحامون الحقوقيون، سوف يعانون الأمرّين، لأن المحاكمات العسكرية تلغي شروط المحاكمة العادلة».
صوت حقوقي آخر هو حافظ أبو سعدة، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، يردد عبارات ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، ويقول «لا تحدثني عن حقوق الإنسان في مواجهة الإرهاب، لا بدّ من إعلان الحرب بلا هوادة على المتطرفين. منظمات حقوق الإنسان عليها دور أيضاً في تنظيم الأفكار ضد الإرهاب».
المشهد الإعلامي في مصر ينكمش أكثر. رجال الأعمال «ملّاك القنوات الفضائية»، اتفقوا على سياسة تحريرية «تدعم خطوات الدولة لمحاربة الإرهاب»، فيما اختار رؤساء تحرير الصحف، خنق حرية الصحافة. العسكرة باتت ثوباً ملائماً لمرحلة ما بعد حادث «كرم القواديس».
وبعد اجتماع لرؤساء تحرير الصحف المصرية مع حزب الوفد، قبل ثلاثة أيام، ولد بيان مشترك أقلق مراقبين محليين، ودوليين، حيث قال المجتمعون: «الصحف سوف تتوقف عن نشر البيانات التي تدعم الإرهاب، وتدعو إلى تقويض مؤسسات الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، والتعامل بموضوعية، ودون مبالغة، مع أخبار التظاهرات التخريبية لجماعة «الاخوان» داخل الجامعات وخارجها، ووضع آلية للتنسيق المشترك بين الصحف كافة لمواجهة المخططات الإرهابية، والسعي إلى اتخاذ الإجراءات لمواجهة هذه المخططات التي من شأنها منع تسلل العناصر الداعمة للإرهاب إلى الصحافة، ومواجهة الثقافة المعادية للثوابت الوطنية».
ويرى خالد البلشي، عضو مجلس إدارة نقابة الصحافيين المصريين، أنّ الخطوة هي «تأميم لحرية الصحافة، لكن بأيدي الصحافيين أنفسهم». قول يتفق مع بيان غاضب، صدر عن حركة «صحافيون ضد قانون التظاهر»، رأى أنّ «بيان رؤساء التحرير، يعد تأميماً اختيارياً للصحافة، وترويضاً للسلطة الرابعة. البيان يسلم حرية الصحافة للسلطة الحاكمة بزعم «مكافحة الإرهاب»، برغم أن القاصي والداني يعلمان أن مجرد التطبيق الفاعل لميثاق «الشرف الصحافي» كاف لمواجهة أي خروج عن قواعد وآداب المهنة، أو أي تحريض على العنف، إلا أن المقصود للأسف الشديد هو النيل من حرية الصحافة».
ويبدو أنّ الأمور تتجه إلى المزيد من التوترعلى مستوى سيناء، وخصوصاً على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة (13 كيلو متراً). ويتوقع كرم سعيد، الخبير السياسي، أكثر من سيناريو، أبرزها، أن قوات الجيش ستنجح في إقامة منطقة عازلة، على طول الشريط مع غزة، مع إعادة توزيع ديموغرافي للسكان المقيمين في رفح، على طول خط الحدود مع قطاع غزة، «وإذا فشل هذا، فإن الدولة ستحفر، ممرا مائيا بطول 10 كم من شأنه أن يجعل باطن الأرض رخوة، ويصعّب بناء الأنفاق. وقد يجري استكمال الجدار العازل «الفولاذي» الذي بدأت مصر ببنائه عام 2009 على طول الشريط الحدودي مع غزة بهدف حماية الأمن القومي».
الخبير السياسي، يرى أن إعلان حالة الطوارئ في كامل البلاد وارد، وخصوصاً أن الحرب مع الإرهاب مفتوحة، لكنه يقول «إذا عجزت الإجراءات المصرية الأمنية عن ضبط الحدود مع القطاع، أو الفشل في حصار التنظيمات المتشددة وخلاياها النائمة في سيناء. ستتزايد الأخطار التي تهدد الداخل المصري».