المقداد مقدادهو ذاك الطفل الذي كان يجري بين بيوت عكا العريقة واصلًا إلى سورها القديم. هو الفتى الذي عرفته حيفا باسما وسيما كقمر السماء المتلألئ في ليلةِ كماله. وهو ابنُ الحرب الذي سقطت محبوبته أمامه، لا شيء يُنجيها، فبقي يأخذ حقها أبدا برصاص الكلمات. هو ابنُ المخيم الذي ذاق المُر وابن الغربةِ الذي ذاق العلقم! هو شهيدُ بيروت وعريسُ القُدس الذي اشتهته يوما .. فجاءها محمولا.

قليلون هُم الذين ترضى بهم فلسطين فرسانًا لها. قليلون من عشقتهم وأحبتهم وقليلون من اتخذت من قلوبهم مسكنا. فهي مراد كل الشباب يتطلعون لرضاها، لكن القليل من كان كما تهواه، وواحدٌ ممن حلمت بهِم فوارس لها.. كان غسّان!
غسّان كنفاني. هل حدث يومًا أن فتنك اسم؟ هذا ما حدث! فاسمه وفلسطين واحد. وكلما ذُكِرَ غسّان، ذَكِرت فلسطين.
رأيته في المنام. هل هناك فتنةٌ أكثر من هذه؟ وجهٌ مشرقٌ كالشمس المطلة على قرية غطّتها الغيوم دهرا. غسّان. هل أقول لكَ شيئا؟ وددتُ أن أقول لك كما لو أنك الآن تسمعني. فلا بد أن الكلمات التي تخرج من قلوبنا تصل إلى من رحلوا بواسطة الملائكة عبر بريد السماء! لم أركّ يوما ولم أقابلك. لكنّي كما الكثيرون عرفتُكَ وأحببتُك. عرفتُ فلسطين في كلماتك ورأيت فيها صورةً لجمال وطني الذي عشتُ عقدين في حياتي ولم أرهُ يومًا، فلا بد أنك عندما تكتُب كُنتَ تستحضر فلسطين بكل صورها، فلسطين الحُب وفلسطين الحرب. وأنا عندما أكتب أستحضرُكَ أنت فقط، فأنتَ كُل شيء.
في مراحل دراستنا تمرُ علينا الكثير من الأسماء، الكثير الكثير. لا بد أنك علمتَ بذلك فأنت كُنت معلمًا وما زلتَ حتى اليوم! هناك أسماء تمرُ كطيف بسيط وتمضي، وهناك أسماءٌ أخرى تبقى عالقة في الذاكرة، لا تفارقها.. أسماء تعلقُ في الروح وفي القلب قبل كل شيء، واسمك.. اسمُ غسّان واحدًا منها.
إن تساءلت كيف أنتَ معلمٌ حتى اليوم .. فاعلم ذلك، واعلم أنكَ معلمنا جميعًا.. فأنتَ الذي علمتنا حُب الأرض والمخيم، حب حيفا وجمال الثورة! وأنتَ الذي علمتنا نطق حروف فلسطين صحيحةً كما يليقُ بها، وأنتَ الذي علمتنا كُل شيء.
أتمنى يومًا أن ألتقي أحد الأشخاص الذين أكرمهم القدر بسخاء فحظوا يومًا بالعيش معكَ أو بلقاء! أتمنى مثلًا أن ألتقي أخاكَ عدنان! أو مريد البرغوثي، سأجعلهما يحدثانني عنكَ قليلًا حتى أتأمل عيونهما خلال حديثهما، لا بد أن طيفك سيبدو فيها, لا بد أن في تلكَ العيون شيئا من ذاك اللقاء قبل خمسة عقود أو أكثر!
في كل صباح أستيقظ، أتذكر أن لي في هذا العالم شيئا. وتقولُ لِي نفسي «قُم» كما لو أن غسان هُنا يريد منكَ أن تقوم. وفي كل مرة أتذكر أنني إذا ما أردتُ شيئًا فعليَّ حقًا أن أخذهُ بذراعيّ ويديّ. وأذكر أيضا أنه يجب أن تكون لدي هناك فكرة ما نبيلة، يجب أن تكون لديَّ قبلَ الموت، ففكرتكَ أنت بقيت خالدة إلى هذا اليوم بيننا .. وأنت أعظم من حقق فكرة نبيلة في التاريخ الفلسطيني، وأتذكر أن الموت لا يهم بل الأهم أن نستمر. لا أنكر أن بعضهم خان.. فكثيرون يقومون بذلك الدور الحقير، لكن تأكد أن هناك من يحمل بوصلة غسّان كنفاني توجهه إلى فلسطين قبلة المقاومة والأدب وقبلة الحب للأبد.

غسان. قمر السماء يكتملُ ليلةً واحدةً. وقمركَ في كل الليالي مكتمل، وإذا كانت الأقمارُ تغيب. أنتَ حاضرٌ هُنا... حاضرٌ في أزقة المخيم وفي ليالي الغُربة، حاضرٌ في كل كتاب وجِدت فيه كلمة فلسطين.
غسّان هُنا ما زال بيننا!