مرة أخرى يخترق مقاوم فلسطيني كل القيود المفروضة على فلسطينيي الضفة المحتلة عامة، والمقدسيين خاصة، وينفذ عملية جريئة. فرغم كل الإجراءات والتدابير الأمنية الإسرائيلية، نجح أحد المقدسيين في مفاجأة أجهزة أمن الاحتلال، ومن فوقها القيادة السياسية، وذلك بتوجيه ضربة مؤلمة إلى المستوطنين في قلب القدس أدت إلى مقتل ضابط من حرس الحدود ومستوطن وجرح نحو 14 آخرين.
أياً كان مستوى المكابرة الذي يتحصن به المسؤولون الإسرائيليون، فإنهم لن يستطيعوا تجاهل حقيقة أن كل رهاناتهم لم تتمكن من إخماد غضب المقدسيين، أو عموم الفلسطينيين، الذين فاجأوا حتى داعمي مقاومتهم. وكان من الواضح أن السياسات الاحتلالية ترتكز على أن الشعب الفلسطيني لن يلبث طويلاً حتى يتكيف مع الواقع الذي تفرضه إسرائيل، وعلى هذه الخلفية ظل رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، يؤكد أن تل أبيب ستربح المعركة في القدس، ولكن لا يخفى أن الآمال الإسرائيلية معقودة على الصمت المطبق في العالم العربي.
رغم ذلك، كما في المحطات التاريخية، يخرج من يحبط الرهانات الإسرائيلية ويفرض من جديد قضية القدس على صدارة الحدث، مع التشديد على أن تراكم النتائج مرهون باستمرارها. وهذه المرة استطاع مقاوم فلسطيني، «تسلح» بما تيسر، أن يقتحم مجموعة من المستوطنين ورجال الأمن بسيارته، بل حمل من الإصرار كمية من الشجاعة خولته أن يخرج بنفسه حاملاً عصا حديدية ليقاتل بها حتى آخر نفس.
تهدف العمليات
الفردية إلى
إبقاء حالة الصراع بدلاً من الإحباط


وإن كان من غير المتوقع أن تؤدي الإنجازات التي سجلها الشعب الفلسطيني إلى تغيير المسار العام المتصل بالقضية، فإن تواصل تدفق دماء الشهداء وبطولات المقاومين، عادة تؤدي إلى تغيير في مجرى الأحداث والتسبب في صدمات مفاجئة للعدو. وحتى لو لم يكن الرهان كبيراً، في هذه المرحلة، على تحقيق النتائج عربياً، تبقى حقيقة أنه في الوقت الحالي لا يوجد خيار بديل أمام الفلسطينيين سوى المقاومة، حتى لو ضمن عمل مرحلي يضمن على الأقل الحد من المسار التنازلي الفلسطيني والعربي، وثانياً يهدف إلى إرباك السياسات الإسرائيلية.
في الحد الأدنى، يظل مهماً بقاء حراك العمليات الفردية، تارة بسيارة تقتحم جموع المستوطنين، وأخرى برصاصات تستهدف كبير الحاخامات المتربصين بالأقصى، فضلاً عن التظاهرات اليومية، وكلها عنصر أساسي في بث روح المقاومة، ومنع حالة «الموت السريري» التي تمر بها شرائح واسعة من العالم العربي، بل المجتمع الفلسطيني نفسه، وإلا فسيدخل التشاؤم المفرط صوب مستقبل القضية.
أكثر ما يعبّر عن الصدمة في المشهد الإسرائيلي حالة الذهول التي ظهرت ملامحها في وسائل الإعلام، ومضمون مواقف كثيرة يطلقها المسؤولون الإسرائيليون. أيضاً تعبّر ردود الفعل الميدانية والسياسية عن انعكاس لبرنامج وأولويات سياسية محددة مسبقاً، ومن أبرزها توجيه بوصلة الاتهام صوب رئيس السلطة، محمود عباس، ورسم معيار يقسم الفلسطينيين إلى خيارين: إما أن يكونوا مع الاحتلال في مواجهة المقاومين والمحتجين المقدسيين، وإما أنهم من المحرضين.
وتكراراً لموقف نتنياهو في عمليات مشابهة، كانت ضمن الرد الشعبي الفلسطيني على سياسات الاحتلال، فهو أكد أن هذه العملية هي نتيجة «تحريض» عباس، فيما التفسير الإسرائيلي لما يسمى «التحريض» هو أن على القيادات الفلسطينية، بمن فيهم رئيس السلطة أن يستنكروا «الردود المتواضعة» للشعب الفلسطيني مقابل قمع الاحتلال، بل المساعدة في إخماد سكان القدس والطلب منهم قبول الأمر الواقع.
ما تقدم ليس مجرد تفسير، بل حقيقة ذكرها نتنياهو في كلامه أمس صراحة، وقال في ذكرى مقتل إسحاق رابين إنه رأى أن «السلام مع الفلسطينيين لا يمكن أن يتحقق ما دام الفلسطينيون يدعمون الإرهاب بدلاً من السعي إلى هزيمته». وفي دعوة صريحة للأجهزة والقيادات الفلسطينية إلى مواجهة التحركات والردود الشعبية، اعتبر نتنياهو أن «السلام مع الفلسطينيين يمكن أن يكون ممكناً فقط عندما تمتلئ الساحات الفلسطينية بأناس تطالب بإنهاء الإرهاب وليس بمسيرات مؤيدة له». وامتداداً لسياسة التحدي والاستفزاز، وفي محاولة لزرع اليأس في قلوب المنتفضين، أكد أنه سيواصل المعركة حتى تحقيق الانتصار في القدس. وهو ما يعني وفق المعايير الإسرائيلية استكمال تهويدها وإنهاء كل ما يمت إلى الشعب الفلسطيني وذاكرته التاريخية بصلة.