تتوالى المواقف والمؤشرات التي تؤكد استمرار المباحثات بين تل أبيب وأنقرة، في ظل أنه بات مؤكداً تواصلها بعيداً عن تغطية وسائل الإعلام. ويكشف إصرار الطرفين التركي والإسرائيلي على مواصلة المباحثات، رغم وجود بعض التباينات المتصلة بحصار غزة تحديداً، عن أن كليهما باتا يسلمان بضرورة رفع درجة العلاقات إلى مستوى التحالف، لمواجهة مفاعيل وتداعيات التطورات التي تشهدها الساحتان السورية والإقليمية.
فمن جهة، لم يترك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مجالاً للكثير من التفسيرات عندما أعلن حاجة تركيا إلى إسرائيل وحاجة إسرائيل إلى تركيا، وهو ما ينطوي على إقرار من أعلى الهرم القيادي في تركيا بضرورة التحالف على قاعدة «مواجهة التحديات والتهديدات المشتركة» التي باتت أكثر حضوراً، نتيجة الانتصارات التي يحققها الجيش السوري وحلفاؤه بدعم من الجيش الروسي. وفي المقابل، لا تحتاج إسرائيل إلى الكثير من الشروحات كي تبرر محاولات التقرب من تركيا، خاصة أنها أكثر من يتضرر من تنامي قدرات وانتصارات محور المقاومة، وهو أمر عبّر عنه قادتها في أكثر من مناسبة، بمن فيهم وزير الأمن موشيه يعلون.
الجهة الأكثر تضرّراً من هذا التطور قضية فلسطين عموماً وغزة تحديداً

إلى ذلك، يحضر العامل الروسي في خلفية مواقف تل أبيب وأنقرة، بعدما بات جزءاً لا يتجزأ من المعادلة الإقليمية على المستويين السياسي وتوازنات القوى. فمن جهة، تحاول تل أبيب احتواء مفاعيل التدخل الروسي عبر نسج عمليات تنسيق بين الجيشين يحول دون اصطدام كل منهما بالآخر، وبما يسمح للإسرائيلي بمواصلة استهدافاته لعمليات نقل الأسلحة النوعية إلى حزب الله من سوريا وعبرها. وفي المقابل، بلغت درجة التوتر بين تركيا والجيش الروسي حافة الصدام بعد إسقاط الطائرة الروسية، وشكلت هذه الحادثة منعطفاً حاداً في العلاقات بين موسكو وأنقرة التي اندفعت للبحث عن شركاء إقليميين لاحتواء مفاعيل تأزم العلاقات مع روسيا؛ فوقع الخيار على إسرائيل.
أيضاً، باتت تركيا أكثر حاجة إلى تأمين بديل من الغاز الروسي بفعل تدهور العلاقات مع موسكو، وفي المقابل، تحتاج تل أبيب إلى أسواق لهذه الثروة التي اكتشفتها في مياه المتوسط.
في كل الأحوال، تؤكد المباحثات التركية ــ الإسرائيلية، سواء توّجت باتفاق بين الطرفين، وهو المرجّح في نهاية المطاف، أو تعثرت المحاولات نتيجة عدم اجتراح مخارج ترضي الطرفين في الوقت نفسه، أن الموقف التركي لم يكن مبدئياً إزاء القضية الفلسطينية، بل كان مسقوفاً بمعادلات سياسية تقوم على أساس الاعتراف وشرعنة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، رغم ارتفاع لهجة الخطاب السياسي التركي إزاء إسرائيل خلال السنوات الماضية.
نتيجة ذلك، فإن الجهة الأكثر تضرراً من هذا التطور كانت وستبقى القضية الفلسطينية عموماً وقطاع غزة تحديداً، خاصة أن أي صيغة لن تخرج عن الثوابت التي تضعها إسرائيل كخطوط حمر ينبغي أن يكون التعامل من ضمنها مع الواقع القائم في القطاع.
تأتي مواقف يعلون عن ضرورة المطالبة بإعادة جثتي جنديين إسرائيليين من غزة ضمن أي اتفاق مصالحة مع تركيا (راجع عدد أمس)، لتؤكد أن إسرائيل ترى نفسها في موقع من يملي الشروط ومحاولة الاستفادة من الاندفاعة التركية إلى أقصى الحدود. وبلغ به الأمر أنه استبعد التوصل إلى اتفاق مع تركيا بسبب رفضها الشروط الإسرائيلية. ووفق صحيفة «هآرتس»، فإن يعلون هو الوزير الوحيد من بين أعضاء المجلس الوزاري المصغر الذي يبدي تحفظاً إزاء الاتفاق مع تركيا، وهو الذي طالب بإدراج بند يدعو إلى طرد القيادي في «كتائب القسام» صالح العاروري من الأراضي التركية. ونقلت الصحيفة عن مصدر سياسي رفيع في تل أبيب قوله إن موقف يعلون هو أحد أهم أسباب تخوّف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من عقد الاتفاق.
وأضاف المصدر أن يعلون تحفّظ بشدة على مسألة تخفيف الحصار البحري المفروض على القطاع، وعلى منح تركيا إمكانية الوصول مباشرة إلى غزة من طريق البحر. وكان وزير الأمن الإسرائيلي قد أجمل رؤيته للاندفاعة التركية باتجاه إسرائيل بالقول: «ربما بسبب الوضع في سوريا، والعلاقات بين روسيا وتركيا، وربما بسبب قضية الغاز... هم توجّهوا إلينا».