غزة | على الحدود المحاذية لقرية «جحر الديك» جنوبي قطاع غزة، تفتح بوابة المجهول ذراعيها لالتهام المزيد من الشبان الذين يحاولون التسلل إلى فلسطين المحتلة بحثاً عن «المستقبل»، ويبدو أن إبرة البوصلة تتجه بأحلامهم إلى المجازفة مفضلين مصير الموت والاعتقال على البقاء «شبه أحياء» في غزة.

ويجمع سكان القرية، التي دمر جزء كبير منها في الحرب الأخيرة، على أنهم يشاهدون شبانا في مقتبل العمر من القرية وخارجها يحاولون اجتياز السلك الحدودي ثلاث مرات أسبوعياً، وهو ما أكده راصد ميداني (عسكري) رفض الكشف عن اسمه، مشددا لـ«الأخبار» على أن مصير المتسللين الوقوع في قبضة جنود الاحتلال المنتشرين على الحدود في كمائن ترقبهم.
ومنذ اشتداد الحصار، ثم الحروب الإسرائيلية المتكررة، صارت الهجرة مطلبا لجزء كبير من الشباب الغزيين الذين لا يجدون عملا، فخرج بعضهم عبر الأنفاق الحدودية مع مصر (قبل إغلاقها)، وركب آخرون قوارب الموت ليغرق العشرات منهم، والآن يعيدون تجربة قديمة يحاولون فيها التسلل إلى الأراضي المحتلة (العدد ٢٣١٠ في ٥ حزيران).
ومساء أول من أمس، أعلن جيش الاحتلال اعتقال فلسطينيين اثنين تسللا من قطاع غزة إلى جنوب الأراضي المحتلة، قائلا إن إحدى وحداته نجح في اعتقال الشخصين بعد اجتيازهما السياج الأمني، لكنهما لم يكونا يحملان أي أسلحة.
في المنطقة المنخفضة التي تسبق الحدود بمئات الأمتار، تركت الدبابات الإسرائيلية خطوطاً ترابية مجعدة لم تفلح أمطار الشتاء في إخفائها، وهي التي يتخطاها الشباب في طريقهم نحو الحدود، كما ظهر من حالات التسلل الأخيرة أن تعليمات الاحتلال بعيد الحرب تدعو إلى اعتقال المتسللين بصمت، وفي أحوال أخرى إطلاق النار بجوارهم ليستسلموا، خلافاً عن حالات القتل المباشرة كما كانت سابقا، ولذلك دواع أمنية ظاهرة.
في الطريق إلى حيّ «السواركة» في القرية، يجتمع أربعة صبية حول رزمة من الحطب. باستراق السمع تبين أنهم يتحدثون في قصة الفتى محمد السواركة (17 سنة) الذي انقطعت أخباره منذ رأوه بأعينهم يتسلق السلك الحدودي قبل أيام مع الشاب محمود السواركة (22 سنة). أحد الأربعة يدعى سليمان (13 سنة) وكان يتوجس من سؤال «الأخبار» عن بيته، لكنه بعدما اطمئن أخذنا قبل لخيمة أطلت منها والدته المتشحة بالسواد وهي تخفي نصف وجهها.
ترفع الأم حاجبيها متعجبة من فعلة ابنها، الذي لم يذكر يوماً نيته اجتياز الحدود، وقالت إنه كان راضياً لتركه المدرسة التي نزح إليها مع تسعة من أفراد أسرته خلال الحرب، واليوم صار بيتهم الخيمة التي لاقينا والدته فيها. أما شقيقه، علي، فيقول إن محمد وشريكه اختاروا النقطة المجاورة لـ«مجمع النفايات الصلبة» كي يتسللوا، فهناك تتقلص المساحة المكشوفة للاحتلال إلى أمتار، وقد روى له جيرانه رؤيتهم جنود الاحتلال وهم يمسكون محمد وأحمد من دون إطلاق نار.
في الحارة المجاورة لمنزل السواركة ظهر أطفال آخرون من بين الركام، وكانوا يحيطون بالطفل أحمد، شقيق المعتقل الشاب محمود. لم يخترق ضجيجهم سوى هتافات متهكمة لثلاثة شبان يستقلون عربة «تكتك» وكانوا يصرخون: «متى الإعمار، ولا راح نظل بين الدمار!».
يشير أحمد بإصبعه إلى نقطة التسلل متعجباً من مجازفة أخيه وصديقه، مضيفاً: «محمد لا يدرس ولا يعمل، وكذلك محمود، لكني لم أتوقع أن يخاطرا».
وصبيحة الجمعة الماضية، كرر اثنان مجهولا الهوية المحاولة من النقطة نفسها، فيما يؤكد أهل «جحر الديك» أنهما غريبان وليسا منها. وعندما وصلا على بعد 200 متر من الأحراش وقع الاثنان في قبضة الجنود المتخفين، ثم حضرت أربع عربات عسكرية يتقدمها عربة قائد المنطقة التي يعرفها السكان جيداً.
ووفق إحصائية أصدرها مركز الميزان لحقوق الإنسان (غير حكومي) في غزة نهاية العام الماضي، فإن 75 فلسطينيًا، بينهم 32 قاصرًا، تسللوا من غزة إلى الأراضي المحتلة، بحثًا عن عمل، ثم جرى اعتقالهم.
في المنازل نصف المدمرة داخل الحي المجاور تكاد الحياة معدومة هناك، فلا صوت لسكان أو جهاز مذياع. يطل من بين بعض الطيور الداجنة الشاب محمد أبو غنيم (18 سنة)، ولدى محمد تجربة فريدة تحرّضه على الابتسام وهو يسرد التفاصيل. يقول لـ«الأخبار»: «شقيقي، أركان 17 سنة، معتقل منذ ثلاثة أسابيع بعد محاولته التسلل... حدثنا بالهاتف قبل أيام وقال إنه تعرض للضرب وسيمثل للمحاكمة قريباً، ولكن لم يره أحد وهو يجتاز الحدود».
وقبل سنة عاش محمد نفسه وشاب آخر، التجربة عينها، بعدما نجحا في اجتياز الحدود، وقطعا ثلاثة كيلو مترات داخل فلسطين المحتلة. آنذاك شاهدا أشجار «الكينيا» الحدودية التي كانا يعرفانها عن بعد، كما فوجئا بعشرات المستوطنين مع أطفالهم يرطنون بالعبرية ويلهون داخل أحد المتنزهات المحاذية لغزة. ويضيف: «رآنا المستوطنون واتصلوا بالجيش، فجاءت عربة عسكرية ثم اعتقلونا وحققوا معنا قبل الإفراج عنا على معبر بيت حانون شمال غزة».
يعلّق الاختصاصي الاجتماعي، درداح الشاعر، على عودة ظاهرة تسلل الشباب عبر الحدود مع فلسطين المحتلة بالقول إن دوافع عديدة تقف وراء ذلك، وخاصة أن غالبيتهم في بدايات عمرهم. من تلك الدوافع، كما يقول، «تأكيد الذات، أو تقليد فعل مقاومين سجلوا بطولات في نظر المجتمع».
برغم ذلك، يبقى الدافع المادي خلف المجازفة، «وهو مرتبط بأحلام العمل داخل إسرائيل التي لا تتواءم مع قدراتهم الجسدية والنفسية». ويضيف الشاعر لـ«الأخبار»: «هاجر شباب وغرقوا في البحر قبل أسابيع بسبب ضغوط اقتصادية وأمنية سببها الاحتلال والمشهد السياسي الفلسطيني، ثم عادت ظاهرة اجتياز الحدود الخطيرة على المستوى الأمني».