الخرطوم | تكوّنت الحركة الإسلامية في السودان ضمن مجموعتين، الأولى محلية، والثانية تأثرت بالتيار الإسلامي المصري، ثم عُقد مؤتمر جامع لكلتا المجموعتين في آب 1954، انتهى بتبني اسم «الإخوان المسلمون»، واستمرّ هذا الوضع حتى ثورة 21 تشرين الأول 1964 التي أطاحت نظام «الفريق عبود»، ثم عادت الأحزاب إلى العمل السري، ومن بينها الإخوان.
وبعد تشكل «التنظيم الجبهوي» الفضفاض، الذي اعتبرته الأغلبية الشكل المناسب للمرحلة، تقرّر تأسيس «جبهة الميثاق الإسلامي»، وانتخاب الشيخ حسن الترابي أميناً عامّاً، وجاء بيان 25 تشرين الثاني 1964 معلناً انتصار التوجّه السياسي على الدعويّ في نشاط الإخوان.
منذ تلك اللحظة، حسمت الحركة الإسلامية السودانية موقفها من المشاركة السياسية بلا تحفظات، وهو أن تكون جزءًا من الصراع على السلطة نحو التمكين ونصرة الدين، وطبّق الإسلاميون هذه الخطة بدقة، كاستراتيجية في الأداء السياسي في مرحلة ما قبل الاستيلاء على السلطة في «انقلاب 30 يونيو 1989» ما بعد ذلك، أو مرحلة «التمكين».
دخلت الحركة في تحالفات مع الحزبين الكبيرين التقليديين «الأمة» و«الاتحادي» ومحورها محاربة الشيوعيين، وإجازة مشروع «الدستور الإسلامي»، وقد نجح الإخوان في جرّ هذه الأحزاب إلى اتخاذ قرار بحل الحزب الشيوعي عام 1966، ما أدّى إلى استقطاب حاد أدخل البلاد في أزمة سياسية حتى حسمت بانقلاب عسكري نفذته مجموعات يسارية، في25 أيار 1969، ولكن «الحركة الإسلامية» مارست أقصى درجات البراغماتية، حين تنازلت عن كل مواقفها السابقة، ودخلت مصالحة وطنية عام 1977 مع النظام، كما أدّى الشيخ حسن الترابي القسم كعضو في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي.
بعد ذلك، استغلّ «الإخوان» الحرب الأهلية في الجنوب، وتدهور الأحوال الأمنية، وتراجعات الجيش، فاخترقوا المؤسسة العسكرية، وأقحم الجيش مباشرة في الأزمة السياسية لتأتي مذكرة الجيش في شباط 1989، وتعيش البلاد أجواء انقلابية. انتهز «الإخوان» الفوضى لإنجاح انقلابهم في 30 حزيران 1989، رغم كونهم أقلية، لأن أكثر من 60% من أهل السودان «نحو 16 مليون شخص» مرتبطون بولائهم الديني بالتصوّف، فيما لا تشكِّل الجماعات السلفية سوى 10% من الخريطة الدينية للسودان، التي يمثلها إلى جانب المتصوفين والسلفيين، الذين لا ينتمون إلى أيّ طائفة، وكذلك «الإخوان المسلمون».
ويمكن القول إنّ «الإخوان»، وإن كانوا أقلية، فإنهم تصدروا المشهد الإسلامي في السودان، وقدموا أنفسهم على أنهم «الجماعة الأم» التي خرجت من عباءتها التيارات السلفية، الوسطية أو الجهادية.

تزايد الانقسامات

مع توالي الأيام، تزايد عدد الحركات الإسلامية بفعل الانقسامات التنظيمية التي ضربت جسد «الإخوان»، وجماعة «أنصار السنة» المحمدية السلفية، بالإضافة إلى تيارات إسلامية أخرى مثل جماعة «الدعوة والتبليغ» وحزب «التحرير الإسلامي» ومجموعة «الصحوة الإسلامية» وكلها تصفها الجماعات السلفية المنحدرة من صلب «أنصار السنة» بـ«السروريين»، نسبة إلى السوري محمد سرور زين العابدين.
وتتفق الجماعات السلفية فيما بينها على الدعوة إلى تصحيح العقيدة، ومواجهة التصوّف السوداني مواجهة صريحة ومكشوفة لا مداراة فيها ولا مهادنة، بينما تتفق مع «الإخوان» في الموقف من السلطة، فتعمد إلى مهادنتها وترك معارضتها، بل يصل الأمر بهم إلى تحريم «نقد الحكام من المنابر العامة»، لكن الجماعات السلفية تتشابك مع «الإخوان» في الاتجاه إلى العمل الخيري والإغاثي، بجانب نشاطها الدعوي، اعتماداً على دول الخليج، التي تعدّ المموّل الرئيسي للتيارين.
في المقابل، تختلف الجماعات السلفية عن «الإخوان» في بساطة هيكلها الإداري ومركزيته الشديدة، مع تساهل في الانتماء التنظيمي مقارنة بالحركات الإخوانية التي تعتمد أساليب وآليات صارمة لضم الأعضاء، فتعرّضهم لاختبارات قاسية. ويقول أحد من رفضت عضويته في التنظيم، إنه لم يستطع الدخول إلى التنظيم لأنهم خطفوه، وعصبوا عينيه وحققوا معه على أنهم من أجهزة الأمن، فأقرّ بكل ما يعرف، وهو ما جعلهم يضعونه في مرتبة «محب»، وهي إحدى المراتب غير التنظيمية داخل الجماعة، وهذا ما يفسّر الولاء التنظيمي المطلق لأعضاء الإخوان، فيما توجد قابلية لدى الحركات السلفية للتشرذم والانقسام.
أما قادة «الإخوان»، المتحوّلون إلى السلفية، فيرون أنّ منهجهم جاء ثمرة لتطوّرات كثيرة مرّت بها جماعة الإخوان بدءًا بمرحلة الترابي، مروراً بمجموعة «الإخوان» بقيادة الحبر نور الدائم، وإن كانوا متفقين عموما على التزام منهج «السلف الصالح»، فإنهم يعتقدون بوجوب تأصيل المنهج الإخواني، وتنقيته بميزان «أهل السنة والجماعة».
هذا الخلاف أدّى إلى وقوع المفاصلة عام 1991م بين التيّار العام في الجماعة بقيادة سليمان أبو نارو، وثلاثة من الإخوان هم: عصام البشير، وصادق عبد الماجد، والحبر نور الدائم، الذين يمثلون القيادة التاريخية للجماعة، هنا لأوّل مرّة تميّز دعاة منهج «أهل السنة والجماعة» في جماعة «الإخوان» في كيان منفصل يعمل باسم «الإخوان» حتى بعدما أصدر التنظيم العالمي قراراً بفصله من عضوية الجماعة.
كان المؤتمر العلمي عام 2001م نقطة فاصلة في تاريخ «الإخوان» وقُدم فيه منهج جديد


زاوجت «السلفية الجهادية» بين الاتجاه السلفي في المعتقد، والمنهج الحركي «الإخواني»

ورغم الجذور العميقة للصراع بين منهج «الإخوان» والمنهج السلفي داخل أروقة الجماعة، فإنّ هذا التوجه الجديد خرج للعلن في مرحلة متأخرة جداً من منتصف التسعينيات، في ما عرف بالمؤتمر العلمي عام 2001م، وقيل أنه نقطة فاصلة، كما قُدم منهج جديد في المؤتمر ليكون بديلاً عما لدى «الإخوان المسلمون»، لكنه قوبل بالرفض مع إعلان الجميع تمسكهم بمنهج «الإخوان»، ومع الإصرار على أن تكون المراجعات الجديدة في إطاره.
ورأى الشيخ عيسى مكي، في بيان أصدره قبيل استقالته من جماعة الشيخ سليمان أبو نارو عام 2003م، أنّ عدم حسم اسم الجماعة ومنهجها «أقعد بالجماعة، وجعلها تتقلّص حتى أصبحت اسماً ومعنى، فجماعة أبو نارو لم تعد هي جماعة الإخوان الشرعية الوريثة للجماعة الأم التي انطلقت بعد مؤتمر 1954م».
بعد المؤتمر العلمي، ظهر بوضوح تياران في الجماعة: تيار إخواني، وتيار سلفي جديد، وانتهى الخلاف بين التيارين إلى انشقاق جماعة «الإخوان» -جناح أبو نارو- إلى جماعة «الإخوان المسلمون ـ الإصلاح»، وجماعة يقودها أبو نارو، وغيرت اسمها لاحقا إلى «جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة». ثم أعلنت الجماعة الجديدة بقاءها داخل الإخوان مع «التباين المنهجي والمفارقات في المواقف والعلاقات، ووحدة القطيعة التنظيمية، وفجور الخصومة»، على أن ذلك كان «خصماً وتلبيساً على المنهج، وخلطاً المواقف، وحيرة للمدعو، وحرجاً على الداعي»، وهو ما أعاق مسيرة الجماعة الوليدة وأرهق صفها.
ونقل القائمون عليها أن «المصلحة الشرعية، والضرورة العملية اقضتا لزوم تغيير الاسم، فكانت جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة»، وأكدت الجماعة الجديدة أن نظرتها إلى السياسة هي النظرة نفسها باعتبار أن «الحاكمية لله، وأن الإسلام لا ينفصل عن السياسة، لكننا لا نمارس الأعمال السياسية التي تخالف الشرع، فنحن مثلا نرفض الديموقراطية، ونرفض إقامة أي علاقة مع الأنظمة السياسية التي لا تحكم بما أنزل الله». وأوضحت أيضا أن «إخوان السودان تمسكوا بالمنهج التقليدي المتعارف عليه حتى عام 1964م، وهي دعوة إسلامية عامة تدعو إلى الإسلام وإلى أصوله الكلية المعروفة من غير شذوذ، ولكن من غير تفصيل أيضاً».
منذ ذلك التاريخ عصفت بإخوان السودان رياح عاتية وفتن متعددة، كان أشدها أثراً العصرانية التي جاء بها «الترابي». كذلك بدأ الشقاق يتسع بين «الإخوان» و«السلفيين» الذين أصبح لهم دور كبير في الساحة، وتعدّدت مشاربهم، وتغيرت صورة «أنصار السنة» بزيّهم المميّز، وجلابيبهم القصيرة، وانتشرت «السرورية» وهي جماعة سلفية إخوانية، «تقوم على المزج بين منهجي ابن تيمية، بموقفه الصارم من المخالفين للسنة، وسيّد قطب بثوريته ومقولته في الحاكمية».
في السياق نفسه، فتحت خطوة محمد عبد الكريم، وهو أحد كبار قادة السلفيين في السودان، بإعلانه وعزمه تكوين حزب سياسي يدخل معترك الحياة السياسية، الحديث عن علاقة السلفيين بالسياسة، فبعدما كانوا يرفضونها وينتقدون سعي «الإخوان» إلى الحكم، ها هم انفتحوا كثيراً، وقرروا المشاركة، وساقوا الفتاوى الشرعية التي تحلل لهم ذلك.

«السلفية الجهادية»

وبرغم العداء بين «الإخوان» و«السلفيين» في السودان، فإنهم ظلوا يحاولون استمالتهم في صفهم لمواجهة المد اليساري الذي بدأ يعود بقوة في صفوف الشباب السودانيين. ويسعى «الإخوان» بذلك إلى حماية وجودهم في الحكم بتشكيل تحالف إسلامي واسع «منعاً لإهدار طاقات العمل الإسلامي»، كما وصف قادتهم، وما سهّل ذلك أنّ غالبية التيارات الإسلامية متأثرة بالأساس بمنهج «الإخوان»، إن لم يكن تنظيمياً، ففكرياً.
ومع أنّ «السلفية الجهادية» من روافد التيار السلفي، فإنها هي الأخرى تأثرت بمدرسة «الإخوان» وحصلت على دفعة قوية بعد ضربة الجماعة في مصر في الستينيات، كما تأثرت بكتابات سيد قطب عن الجهاد والحكم والسياسة.
و«السلفية الجهادية» في السودان أساسها ليس «السرورية» كما يعتقد بعضهم رغم اعتمادها على منهج سيد قطب وتفسيره «في ظلال القرآن» أثناء الفهم الحركي، لكنها تختلف في السيرة النبوية وكيفية استثمارها والاعتبار بها حركياً، فيما زاوجت «السلفية الجهادية» بين الاتجاه السلفي في المعتقد والتوجّه، والمنهج الحركي التنظيمي المستمد من تنظيمات «الإخوان»، وأصبح شعارها «سلفية المنهج وعصرية المواجهة».
حتى إن الأمر وصل بـ«السلفية الجهادية» إلى تكفير الترابي على خلفية إفتائه بجواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وجواز اعتلائها منبر صلاة الجمعة، وكفّروا أيضاً الصادق المهدي، وهو رئيس حزب الأمة السوداني المعارض وإمام طائفة الأنصار الدينية، وطالبوا باستتابته لأنه أجاز مساواة المرأة بالرجل في الميراث.
على ذلك، شقّت الصراعات والتجاذبات صف السلفية، وانتهى بهم الأمر إلى تيارات وأجنحة أبرزها جماعة «اللاجماعة» التي انشقت عن جماعة «أنصار السنة» عام 1990، وجماعة «أنصار السنة» (الإصلاح) التي ظهرت إلى العلن في تموز 2007 ، وهي معارضة للحكومة السودانية، ولها مواقف نقدية للجماعات الإسلامية الأخرى، وخاصة «الإخوان المسلمون» كما لا تتمتع بأي علاقات تحالفية أو تشاركية مع أي من الأحزاب السودانية، وحالياً تتجه نحو الانغلاق والتشدد مع نزعة تكفيرية ظاهرة.
ومن الواضح أن «السلفية الجهادية» يعبر عنها الرافد الأفغاني، بعدما تدفقت إلى السودان مجموعات سلفية أخرى من أفغانستان عُرفوا بالأفغان العرب، ومنهم أسامة بن لادن، للاستقرار في السودان، في أعقاب ما عرف في بداية عقد التسعينيات بسياسة «الباب المفتوح»، التي انتهجتها الحكومة السودانية، لكنها أبقت تنظيمات متفرعة من أفكار جماعة «الإخوان».
وتصل الخلاصة إلى أن أزمة التيار الإسلامي في السودان نبعت أولا من أن خلفيته الدينية والسياسية أساسها جماعة «الإخوان المسلمون»، التي تواجه إشكالات كبرى مع اتهامها بالجمود الفكري وتصدير مبدأ السمع والطاعة، واعتماد نظرية التنظيم المغلق والأساليب الملتوية في سبيل تحقيق هدفها الأكبر وهو «أستاذية العالم»، وصار يقال إنها تستخدم الديموقراطية لمرّة واحدة حتى تصل إلى سدّة الحكم، ثمّ تنقلب عليها مثلما حدث في السودان وغزة ومصر.
كذلك صار المنهج «القطبي» الذي يستند إلى أفكار سيد قطب، يدعو إلى العنف صراحة، ويكفّر المجتمع ظاهراً وباطناً، بل يقدر بأنه بيئة حاضنة لكل التيارات التي تستخدم العنف وترفع السلاح ضد الدولة والمجتمع، وهو ما انعكس على أفكار التيارات السلفية بكل فصائلها التي جنحت إلى العنف استناداً إلى هذا المنهج، وهو ما يفسّر العلاقة الملتبسة بين «الإخوان» و«السلفيين» في السودان.