غزة | تقترب غزة من إتمام الأشهر الثلاثة من بعد حربها الثالثة، فيما لم تتغير عن وجهها ملامح الدمار. وبعيداً عن الجدال في أن الحرب الأخيرة كان يمكن إنهاؤها في عشرة أيام أو خمسين يوماً، فإنها أفضت إلى اتفاق واجه انتقادات كثيرة من مؤيدي المقاومة ومخالفيها في الوقت عينه.
وإن «لم يكن بالإمكان أفضل مما كان»، فإنّ الجدير بالمعنيين عمل مراجعة سريعة لما طبق من ذلك الاتفاق، فالنظرة الأولى كفيلة بفهم أن إسرائيل عملت على «إطعام الفلسطينيين» ملعقة من كل بند، فيما أرجأت بنوداً أخرى.
وبينما لم تطرأ تغيرات جوهرية على حال الصيد والشريط الحدودي والزراعة وحرية التنقل والحركة، فإن الورقة الشاغلة للغزيين هي إعادة الإعمار التي لم ينفذ منها «بند إزالة الركام» بمعناه الحرفي والعملي، ويرى الناس أيضاً أن الاستمرار في توزيع الخيام وافتتاح «أحياء الكرافانات» إمعان في إذلالاهم، وإشارة صريحة إلى أن الإعمار قريباً هو «حلم إبليس في الجنة» لا أكثر.
حذرت المقاومة من
أن تأخير الإعمار سيكون «شرارة» لمواجهة جديدة

حتى قوافل المساعدات لم تجد طريقها «المستمر» إلى القطاع المظلمة شوارعه، مع استمرار انقطاع الوقود عن محطة التوليد التي قصفت في الحرب، وهو ما يزيد المشهد عتمة، في ظل ما يفيد به «الأخبار» مسؤولون عن متابعة قضايا اتفاق وقف الحرب، فجلهم يجمعون على أن شيئاً لم يتغير، فيما لا صدى صوت من القاهرة عن موعد جديد لاستئناف التفاوض.
وبعيداً عن الصورة المشرقة التي رسمت عن ميناء بحري ومطار وصفقة محتملة للأسرى، فإن الاتفاق قضى في خطواته الأولى أن توسع مساحة الصيد إلى ستة أميال بحرية، ثم 12 ميلاً، فضلاً عن إلغاء المنطقة الحدودية العازلة وإعطاء الحرية للمزارعين بالعمل، وهي بنود كانت مطبقة في اتفاق إنهاء حرب 2012 سابقاً، ثم ضُمّنت في المبادرة المصرية هذه المرة. أما المعابر، فاستثنى الوسيط المصري معبر رفح من الاتفاق، وعلقه على عودة السلطة والوضع الأمني في سيناء، فيما عرّفت إسرائيل بند «رفع الحصار عن غزة» وفق قاموسها بفتحٍ جزئي لمعبرين مع الأراضي المحتلة (إيريز للأفراد، وكرم أبو سالم للبضاعة)، علماً بأن أربعة من أصل ستة معابر معطلة عن العمل.
وبينما لم يتعدّ عدد الشاحنات عبر «كرم أبو سالم» حدود ثلاثمئة يومياً، كما كان قبل الحرب، شهد المعبر إغلاقات متكررة لدواعٍ أمنية أو بناءً على «الأعياد اليهودية»، كذلك لم تتغير نوعية المواد المسموح بدخولها إلى القطاع. وشمالاً نحو «إيريز»، ظلت سياسة الموافقات الأمنية المشددة كما هي، فضلاً عن الإذلال ورحلة التفتيش الطويلة (العدد ٢٣٠١ في ٢٣ أيار)، ويُسجل أنه سمح لدفعتين من كبار السن بزيارة المسجد الأقصى قبل نحو شهر.
ويفيد مدير دائرة المعابر في غزة، ماهر أبو صبحة، بأنه بينما كانت الأمور على حالها القديم على المعابر مع الاحتلال، فإن معبر رفح مع مصر كان يعمل بصورة جزئية بعد الحرب حتى إغلاقه في الرابع والعشرين من الشهر الماضي بسبب الأحداث الأمنية في سيناء. وذكر أبو صبحة لـ«الأخبار»، أن معدل عدد المسافرين عبر «رفح» كان بين 300 ـ 400 شخص في اليوم العادي، «ومن 100 ـ 150 خلال عطلة الجمعة».
عن الإغلاق، تحدث سفير السلطة الفلسطينية لدى القاهرة، جمال الشوبكي، قائلاً إن المعبر لا يزال مغلقاً بقرار من القاهرة، «وهو بانتظار إذن من الجيش المصري لفتحه»، مشيراً إلى أن السفارة تلقت وعوداً بفتح المعبر في حال انتهاء العمليات العسكرية في سيناء. لكن الشوبكي أكد أن هناك مباحثات تجري من أجل إدخال العالقين خارج غزة «لإنهاء هذه المعاناة على الأقل» (العدد ٢٤٤٣ في١٣ تشرين الثاني).

الإعمار المعلق

في قضية الإعمار التي هددت فصائل المقاومة، خلال اليومين الماضيين، بأن استمرار المماطلة فيها ستكون «شرارة» لمواجهة مقبلة، فإنّ من اللافت أنه رغم الاعتراضات التي سجلت على خطة الأمم المتحدة للإعمار، لكن الاحتلال لم يفتح المعابر لإدخال الإسمنت سوى مرة واحدة أثناء زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى غزة، «ثم جرى التحفظ عليها في مخازن تابعة لوكالة الغوث»، كما يقول رئيس تجمع رجال الأعمال في غزة علي الحايك.
حتى بعض من تسلموا أكياس الإسمنت اعترضوا على قلة الكميات مقارنة بالاحتياجات التي قدموها (العدد ٢٤٣٦ في ٤ تشرين الثاني)، وهو ما أقره لاحقاً اختصاصيون اقتصاديون في غزة. مع ذلك، تشكو الوكالة الدولية نفسها من بقاء آلاف الفلسطينيين داخل بعض مدارسها التي تحولت إلى مراكز للإيواء، فيما سلم بعضهم مبالغ لإيجاد شقق للإيجار، وآخرون يقضون أيامهم بين الخيام و«الكرافانات» الحديدية أو الخشبية. هنا أقرّ وزير الأشغال في حكومة التوافق، مفيد الحساينة، بتعنت الاحتلال في السماح بإدخال مواد الإعمار، مقدراً أن استمرار هذا الوضع يعني أن الإعمار لن يحصل كما هو مطلوب، في إشارة إلى تهديدات إسرائيلية سابقة بجعل إعمار غزة يحتاج عشر سنوات.
ولم تفت الحساينة الإشارة إلى أن خطة المبعوث الأممي للشرق الأوسط، روبرت سيري، تلاقي رفضاً شعبياً وفصائلياً بسبب بنودها المشددة في الرقابة (الموضوع الثاني في الملف)، وهو ما يهدد استمرار الإعمار برمته، لذلك يقول الوزير إنهم يعيدون المباحثات مع الجهات الدولية لتعديل هذه الخطة.

الصيد والمنطقة العازلة

بالانتقال إلى قضيتي الصيد والمنطقة العازلة (مرتبطة بالمزارعين)، فمنذ انتهاء الحرب لم تتوقف سلسلة الخروق على صعيد اعتقال الصيادين أو إطلاق النار باتجاههم، وصولاً إلى إطلاق الرصاص على الأطفال أو المزارعين في المناطق الحدودية. وسجلت المراكز الحقوقية ونقابة الصيادين منذ السادس والعشرين من آب الماضي إصابة ثلاثة صيادين واعتقال 29 آخرين، بالإضافة إلى تدمير ثلاثة مراكب والتخريب المستمر لشباك الصيد.
حتى بعض من تسلموا
أكياس الإسمنت اعترضوا على قلة الكميات

وذكر نقيب الصيادين في غزة، نزار عياش، أن الاحتلال ظل يطلق النار على الصيادين (186 حالة) ويتعمد إذلالهم وإجبارهم على خلع ملابسهم وتخريب مراكبهم، وأفاد أيضاً بأنهم لا يعملون بحرية حتى ستة أميال بحرية، بل «قلص الاحتلال المسافة إلى خمسة أميال، وفي بعض الأحيان لا يصل الصيادون حتى أربعة أميال». هذه المساحة المحددة، طبقاً لعياش، لا تكفي لإنتاج صيد وافر لغزة، رافضاً الحديث عن تسعة أميال بحرية في الصورة النهائية، «لأن من حقنا الوصول حتى 12 ميلاً على الأقل ليتسنى لنا الدخول في أعماق حقيقية داخل البحر واصطياد أنواع وكميات وافرة». يشار إلى أن غزة تحتاج إلى نحو خمسة آلاف طن من الأسماك سنوياً، فيما لا يتمكن صيادوها إلا من تحصيل نحو 1000 طن، غالبيتها من أسماك السردين في أحسن الأحوال، وأخيراً صُدِّرَت كميات قليلة مع بعض الخضراوات إلى الضفة المحتلة. كل ذلك ولم يجر تعويض الصيادين ومعهم المزارعون والقطاعات الصناعية عن خسائرهم في منشآتهم ومعداتهم (العدد ٢٣٦٥ في ١١ آب)، علماً بأن خسائر الصيادين وحدها تصل إلى عشرة ملايين دولار.
الحال نفسها مع المزارعين الذين يواصل الاحتلال منعهم مزاولة أعمالهم في المناطق القريبة من الحدود ويفرض عليهم منطقة عازلة تقدر بنحو 300 متر، فضلاً عن أنه توغل في تلك المناطق أكثر من مرة منذ انتهاء الحرب. وأحصى مدير دائرة الإعلام في وزارة الزراعة، فايز الشيخ، اعتقال الاحتلال أربعة مزارعين، قائلاً إن القوات الإسرائيلية تتعمد إطلاق الكلاب الضالة لتخريب مزارع المواطنين، مقدراً ـ هو الآخر ـ خسائر وزارة الزراعة بـ20 مليون دولار.

ماذا تقول الفصائل؟

وبينما كان من المفترض أن تناقش الفصائل الفلسطينية ما آلت إليه التهدئة الجارية، فإن غبار الانقسام بين «فتح» و«حماس» أعاد تعكير الأجواء، وصار شماعة أخرى يؤخر عليها المصريون والإسرائيليون مواصلة البحث في البنود العالقة إلى جانب الوضع الأمني في سيناء. لكن عضو المكتب المكتب السياسي لحركة «حماس»، خليل الحية، يؤكد أن حركته رفضت، مع كل قوى المقاومة، «خطة سيري لعملية الإعمار»، كذلك لم يخف مفاجأة «حماس» من آلية الإعمار، عازياً ذلك إلى أن حكومة التوافق لم تعرض كل تفاصيل الخطة التي اتفقت فيها مع إسرائيل والأمم المتحدة على الحركة.
ولم يركز الحية، في حديثه مع «الأخبار»، إلا على قضية الإعمار، وخاصة مع دخول فصل الشتاء كما يقول، وهذا يعني أن البنود العالقة ستبقى عالقة إلى أجلها أو إلى حرب أخرى. هنا يعود القيادي في «حماس» ليقول إن الحركة سحبت «منذ اللحظة الأولى كل الذرائع من جميع الأطراف كي لا تعرقل عملية الإعمار، وهي في سبيل ذلك قبلت تسليم المعابر لحكومة التوافق»، مستدركاً: «الخطة الحالية تضع ملف الإعمار في يد الاحتلال والأمم المتحدة»، لذلك حذر من أن «الشعب سينفجر في وجه كل الأطراف التي تحاول ابتزازه».
من هنا تحديداً، يمكن اشتمام رائحة الاستعداد لمواجهة أخرى، وفي هذا الإطار لم يخف قيادي في «حماس»، رفض نشر اسمه، أنهم يواصلون الاستعداد كأن الجولة المقبلة آتية غداً. وعلل ذلك بالقول: «قبلنا اتفاق وقف النار، لكننا نعرف من البداية أن الاحتلال سيتملص من التزاماته... إسرائيل تعرف ما نعدّه، وتعلم جيداً أن حماس لن تكتوي بالنار مرتين».
الموقف نفسه تكرر لدى حركة «الجهاد الإسلامي»، وعبّر عنه القيادي خالد البطش الذي أكد أن «جميع الفلسطينيين يرفضون خطة سيري، وسيعملون على إبطالها»، وفيما لا يتضح موقف «الجهاد» من إمكانية تصعيد آخر، شدد البطش على رفضهم عملية تدويل الحصار أو إبطاء الإعمار، مشيراً إلى أنهم مع الإجماع الفصائلي على رفض استمرار حال غزة كما هو.




... وبدأت إزالة الركام؟

أعلن قبل يومين توقيع اتفاقية بين الحكومة السويدية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أجل البدء في إزالة الركام في غزة، وذلك في مكتب رئاسة الوزراء في رام الله بحضور رئيس حكومة الوفاق، رامي الحمدالله، والقنصل العام للسويد والممثل الخاص للمدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومع أنه مضت أسابيع كثيرة على توقف الحرب، فإن التوقيع المتأخر على هذه الاتفاقية يقضي بإسهام الحكومة السويدية في إزالة نحو 140 ألف طن من الركام في الأماكن الأكثر تضرراً، بدءاً من حي الشجاعية (شرق غزة)، ثم ستستمر إزالة الركام لعام واحد. ويقدر برنامج الأمم المتحدة الركام الناجم عن الحرب بنحو مليوني طن، وهو أكثر بثلاث مرات من ركام الحرب الأولى 2008. وأشار البرنامج إلى أنه سيعيد استخدام 78 ألف طن من الركام لإعداد مكب النفايات في جحر الديك (شرق) حتى يكون موقعاً لسحق الكتل الخرسانية، ثم استخدامها في إعادة بناء المنازل والبنية التحتية.
(الأخبار)