دائماً كان هناك حديثٌ بيننا قبل الوصول إلى دار سيدي. الطرقات في المخيّم تشبه متاهةً كبيرة لمن لا يعرفها، لربما أصلاً يضيع من يدخلها باعتقاد أنها كلها متشابهة؛ لكننا نحن مواليد هذه المخيّمات وسكانها الأصليين، نعرفها مذ حداثة أظفارنا. أذكر مرةً حينما دخلت امرأة الى المخيم لتشتري الخضار واللحم لأنها سمعت من الناس أن أسعار الأشياء في المخيم أرخص بكثير، فأضاعت الطريق. لا أعلم لماذا ارتعبت عندما لم تعد تذكر كيف ومن أي "زاروبة" دخلت، فدلتها ابنة عمي التي كانت في السادسة من عمرها للوصول إلى حيث تريد. على الطريق –دائماً- لبيت جدي كانت هناك حكايا كثيرة أتشاركها وأخوتي الستة، نوع من التحضير الذي لا نهاية منه لما سيحدث اليوم داخل العائلة. هل ستأتي عمتي؟ هل ستخبر أبي أننا لم نزها الأسبوع الماضي؟ مع من سنجلس؟ إلى جوار من سنجلس؟ ومن سيكون الضيف هذه المرّة.
أحياناً كانت زيارة دار سيدي، أو المنزل الكبير كما نسميه مغامرةً بكل ما تحويه الكلمة. هو لم يكن منزلاً كبيراً ، لكنه قياساً إلى منازل المخيّم، كبير، فهو يتكوّن من طابقين اثنين وأمامهما دار (فسحةٌ حيث تضع جدتي "الفرنية" التي تشعلها لتعد لنا العجة بالسكر ومناقيش الزعتر والجبنة الحارة) كما كان في الدار بعض النباتات التي كان جداي يهتمان بها، وحينما مرضا أصرا على أن يهتم بها الأحفاد لا الأبناء، لماذا؟ لا أحد يعلم. أصلاً هناك أشياءٌ كثيرة لا أحد يفهم ماهيتها ولا لماذا باتت من الأعراف في منزلنا. مثلاً: لماذا كان على الابن الأصغر أن يتولى رعاية جدتي سودة والنوم عندها؟ ما هي حكمة أن تضيّف القهوة الفتاة الكبرى لدى الابنة الكبرى لجدتي؟ كلها أعراف لم يكن أحدٌ يفهمها، لكن الويل والثبور وعظائم الأمور ممكن أن تحدث لو أنّها لم تحدث أو تمت مخالفتها، وبالتأكيد لا يمكن السؤال عنها مهما كان السبب، وإن حصل السؤال: الإجابة تكون تكشيرةً فلسطينية جامدة تعني: "اسكتي عاد".
مذ كنا صغاراً كنا ندلف بيت العائلة بهدوء شديدة وأناة، فجدتي سودة لم تكن أبداً من هواة الضجة و"القرقعة" أو كما كانت تسميها: شيطنة الولاد. فقد كانت قاسية جداً أحياناً، لكن مرد ذلك وهو ما فهمته حينما بت أكبر سناً، أنها كانت تعيش في عالمها الخاص، عالمٌ له قوانينه وتقاليده وعاداته. مثلاً كل ضيفٍ كان يحدد بطبيعة الضيافة، وطبيعة الثياب وطبيعة اللباس، وهو أمرٌ غريب. مثلاً إذا كان ضيفاً له قيمةٌ اعتبارية تتم استضافته في البهو الكبير –هو ليس كبيراً لكنه يسمى هكذا- وكانت جدتي ترتدي ثوبها الفلسطيني الأبيض ذا النقوش الفلاحية وأحياناً الأسود، لكن ذلك في حال كان الطقس شتاء، وفوق كل هذا، بعضاً من أساورها الذهبية التي أحضرتها معها من فلسطين.
وكما أخبرتكم قبلاً: كنا ندلف إلى منزل العائلة بهدوء شديد وإن كان هدوءنا كما كنا نعتقده ليس كافياً لسماع أنشودة جدتي الدائمة: "بلا زناخة انت وياها وياه". طبعاً لم نكن نعرف معنى الجملة بالضبط، لكننا كنا نفهم أن علينا التوقف عن أي شيءٍ نقوم به. باختصار كانت تلك الرحلة نوعاً من التدريب الذهني والجسدي على شيء سنمارسه في الحياة الواقعية لاحقاً: العمل في بيئةٍ ضاغطة. فجدتي سودة كانت ربة عملٍ صارمة، لا مزاح معها من أي نوع. مع الأيام بتنا ندخل بأكثر ما نستطيع هدوءاً، تخيلوا أطفالاً فلسطينيين من المخيّم، حيث الضجة هي سمةُ كل شيء (يمكن مراقبة –ولغاية اليوم- الأطفال الفلسطينيين وهم يخرجون من مدرسةٍ للأنروا كي تعرفوا تماماً عما أتحدّث عنه). بعد ذلك نبدأ المهام الملقاة علينا، وكانت جدتي تراقب تحركاتنا خطوة بخطوة، حتى تحين اللحظة المنشودة ويأتي الضيوف. هل كنا نخطئ أحياناً أمام الضيوف؟ بالتأكيد. ولكن تلك حكايةٌ لوقتٍ آخر.