القاهرة | عندما كان يزداد غضب المصريين في الشوارع، لأن سلاطين المماليك الغزاة (العسكر) ينهبون أموالهم، ويفرضون عليهم إتاوات، وهم فقراء لا يجدون كسرة خبز، كان جند السلطان، يُخرجون عدداً من السجناء «الجنائيين»، ويوسطونهم (قطع الضحايا نصفين بالسيف)، بزعم أن هؤلاء المقتولين، خرجوا على السلطان، وأضروا بالسلم. يخاف العامة، ويعودون إلى بيوتهم، في كل مرة، ويستقر حكم العسكر لفترة من الوقت، إلى أن يقوم احتجاج آخر، فيعاود السلاطين الخلفاء، استدعاء الأدوات ذاتها.
مرت قرون عديدة ولم تتغير عدّة إرهاب الجماهير، والنصب عليهم باسم الاستقرار. توارثتها كل الأنظمة، اللاحقة بحذافيرها، لكن مع تغير الأزمان تتطوّر الوسائل، وتصمد الغاية. جرى ذلك أيام العثمانيين، والاحتلال الإنكليزي، والملكية، وصولاً إلى عهود لاحقة.
في السنوات العشر الأخيرة، زاد غضب المصريين من فساد حكم الرئيس المخلوع، محمد حسني مبارك، ومن فكرة التوريث، وتمديد قانون الطوارئ، وتزوير الانتخابات البرلمانية، وكان في كل مرة يخرج فيها المحتجون بالعشرات إلى الشوارع، تُخرج السلطة أدوات التخويف من أدراجها.
ورث الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي أدوات نظام مبارك

في عدّة التخويف، تجد معاول طائفية، وتفجيرات غير مفهومة وفاعل مجهول. في نهاية الثمانينيات، بدأت الدولة تقديم أوراق استقالتها، بتطبيق قوانين الخصخصة، لكن أرادت أن تشغل الرأي العام عن هذه الجريمة، التي اتضح بعد ذلك أنها أفقرت وأذلّت ملايين المصريين، فما كان منها إلا أن رفعت مستوى الصخب، وجيّشت الرأي العام، في حربها ضد «إرهاب الجماعات الإسلامية»، في تسعينيات القرن الماضي. مررت قطار الليبرالية الجديدة، في الأسواق، وتمخطرت، والناس المُرهقون من الإفقار والخوف، هللوا للدولة التي تحارب «الظلاميين».
مبارك حكم مصر، بقانون الطوارئ لأكثر من ثلاثين عاماً. نظامه جرب عدّة الإرهاب، ونجحت. هذا القانون المعيب كان يُجدّد بحيل جهنمية. مثلاً، عام 2010، وبعد انتخابات برلمانية، «ملطخة بالدم» والتزوير، حصل خلالها «الحزب الوطني» الحاكم (المنحل حالياً) على نسبة 97 في المئة من المقاعد، وقعت أحداث حي العمرانية، الطائفية، بالقرب من العاصمة المصرية، جرّاء خلاف مفتعل حول بناء كنيسة من دون ترخيص. انشغل الرأي العام، بأحداث العمرانية لعدة أسابيع، حتى أن مسألة تزوير الانتخابات لم تلق اهتماماً عند أحد. لكن سرعان ما ضجت الجماهير، التي تعاني من فساد مبارك، وانهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وجبروت الشرطة، والتعذيب للمعارضين في السجون، مع اندلاع «ثورة تونس»، ليشعر النظام بالمأزق، وتقع أحداث طرحت العديد من التساؤلات.
وكحال مبارك، لم يكن خلفاؤه في المجلس العسكري يملكون أي رؤية لحل مشاكل «مصر الثائرة»، فقط يملكون عدّة التخويف والرغبة في إعادة الاستقرار. يشار من ضمن تلك المرحلة إلى «مذبحة استاد بورسعيد» (الأول من شباط 2012). كانت هذه القضية فاصلة، وأدمت ملايين المصريين، وبقي الحادث مجهولاً في عدد من أبعاده. بعد تلك الواقعة، بدا للناس أن الحادث مدبر، وهدفه تمديد حالة الطوارئ، التي كانت قائمة، وعرقلة مواعيد تسليم السلطة إلى «المدنيين»، وخرجت أصوات معارضة تقول إن الحادث من تدبير «فلول نظام مبارك»، لتشويه البرلمان المنتخب عقب «ثورة يناير»، وتحميله المسؤولية عن الفشل في «رعاية مصالح العباد».
ورث الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، أدوات نظام مبارك، ويزيد على ذلك أنه رجل عسكري، يبدو أنه لا يملك، كغيره، أي رؤية لحل أزمات مصر. وهو من دون أن يعلن حالة الطوارئ صراحة، أدخل البلاد، في ماكينة العسكرة بسرعة كبيرة، والأدوات كثيرة في يده: الحرب على الإرهاب مستمرة في سيناء، الجبهة الداخلية مهددة من إرهاب الإسلاميين وأنصار جماعة الإخوان، «داعش» تريد تقسيم المنطقة ومعها مصر، الدولة المصرية في معركة وجودية مع الإرهاب.
نظام السيسي لم ينجح في حل الأزمات التي يعانيها المصريون، وهو مرر عدداً كبيراً من القرارات، القاسية، كقرارات رفع الأسعار، وتحرير الدعم عن الوقود. نجح في صرف أنظار الرأي العام، بعصا الإعلام، ودغدغة مشاعر المصريين، ومرر قوانين استثنائية، كقانون التظاهر، وقانون مكافحة الإرهاب، وقانون تنظيم الجامعات، وحظر ممارسة السياسة داخل الحرم الجامعي، والتضييق على دور المنظمات الحقوقية، وباتت محاكمة المدنيين، أمام القضاء العسكري مسألة عادية ويومية.
ببساطة، يجب أن يدفع المصريون دائماً فاتورة الإرهاب والتخويف. وأحدث فاتورة هي تظاهرات الأمس، التي دعت إليها «الجبهة السلفية». فالدولة نفخت في «جمعة المصاحف»، لا لشيء إلا لأنها تختبر «بروفة تخويف» إذا خرجت الجماهير عن السلطان في ذكرى «ثورة يناير» المغدورة. إلا أن القوات جاهزة في الشوارع من الآن، لأي مفاجآت جماهيرية في حال حصول الرئيس المخلوع مبارك على البراءة في «محاكمة القرن»، اليوم.