منذ وعيت هذه الحياة وأنا أتذكر مُعاناتِنا على معبر رفح مروراً بثنائيات التناقض: الاحتلال والسلطة، السلطة ومصر، حماس ومصر.وكل فريق "بيشتغل شغلو" لنقع في منطقة الذل. كل ذلك من اجل ماذا؟ مجرد المرور، في صحراء سيناء لننتقل بعدها إلى العالم الذي نريد... تخيل: وأنت في باص الانتظار، سواء أكنت على الجانب الفلسطيني أو المصري، في عزّ الشمس أو البرد لا يهم، مكدساً فوق غيرك من الركاب كحبات البندورة في «سحاحير» معدة للتصدير او التسفير. المهم، بعد انتظار وحجز ودفع وذل، أنت بالنهاية في الباص.

هناك، تجد الصغار والكبار: منهم من هو ذاهب للعلاج، ومنهم الآخر للدراسة، وآخرون لحضور ورشة أو دورة في مكان ما خارج سجن "غزة".
ومع مرور الوقت، ازدادت التعقيدات لدرجة اصبحت معها مجرد فكرة السفر والخروج من «هنا» هو ضرب من الحظ، السفر أصبح حلماً. فمن قصة تسجيل اسمك في مكتب الحجوزات في غزة (الذي تعرض للقصف بالحرب الأخيرة وتغير مكانه مرات عدة) إلى تغيير الآلية في كل مرّة بسبب تزاحم الحجوزات وعدم سفر الكثير في الوقت المحدد، وبين مزاجية المصريين في فتح المعبر، وآلاف الناس العالقين هناك ينتظرون "خبراً عاجلاً مفاده «فتح معبر رفح»، ثم يفتح المعبر ليوم واحد هو الثلاثاء ولباص واحد بحسب ما قضت مزاجية الأشقاء المصريين! بينما كان آلاف الغزّيين ينتظرون اشارة أمل تسمح لهم بدخول الجانب المصري.
قرار كهذا، كم حلماً قتل يا ترى؟ كم أملاً بالشفاء تبدد او حلماً بالدراسة استفاق منه صاحبه ليجد نفسه عالقاً في المعبر؟
لماذا تقف أحلامنا على بوابة صدئة مُهترئة شهدت على مليون دمعة؟!
ولماذا يعتبرون التلاعب بحياتنا أمراً عادياً؟ وماذا علينا أن نفعل؟!
لطالما سمعت كلمة "مرجع حضرتك " باللهجة المصرية. أين نرجع يا ابن الظريفة، ولماذا يتحكم بنا جندي صغير لم يكمل تعليمه!
ربما تكون واحداً من المحظوظين الذين عبروا الجانب المصري وستكون أكثر حظاً إذا كنت "فتاة" لأن الفتاة عادة لا تُرحّل اقصد أن بإمكانها المكوث في مصر من دون ان تذهب مع باص الترحيل، أما إذا كنت شاباً؟ فلا يحق لك حتى دخول مصر. وإذا كان دخولك للسفر الى خارج مصر ومعك فيزا؟ فقد يضعونك في باص قديم مهترئ يوجد فيه ضعف مقاعده من الركاب، ولا يصل المطار إلا وعظام ركابه قد تكسرت.
ثم تظن انك وبعد سبع ساعات، قد وصلت أخيراً إلى المطار، إذ «بهم» يضعونك في غرفة وسخة "وطالعة ريحتها" والأهم انه... لا يوجد فيها إلا فلسطينيون! ربما عليهم كتابة لافتة كبيرة يعلقونها على الباب هنا تفيد انه "للغزيين فقط». ينتظر الشباب «حتى موعد سفرك، يعني قد يكون يوماً او يومين او مجرد ساعة واحدة» ثم ينقلونك إلى مكان نظيف لا يشبه أبداً المكان الذي جلست فيه تنتظر فرج الله وموعد طائرتك، من بعد ان تكون روائح تلك القاعة المفتقرة الى ابسط انواع النظافة قد علقت بملابسك.
بعد المحطات التي يمر بها الغزي وانتظاره، لا يعود مهماً له كيف هو شكله بعد كل هذا الارهاق والتعب، ولا كيف هي رائحته... المهم انه فعلاً سيغادر مصر، متناسياً من باب تأجيل البلاء حتى وقته طريق العودة!
أحياناً كثيرة يتخلى الناس هنا عن مشروع سفر، فقط لأنهم لا يريدون ان يمروا بهذه المحطات مرة أخرى.
أذكر انه وبلحظة تشبه الاحلام، أصبح لغزة مطار لمدة عام واحد فقط، أذكر ذلك جيداً. كان افتتاحه عام 1998، ثم تم تدميره بالكامل من قبل الاحتلال بعد اندلاع الانتفاضة الثانية.
هناك من يقول انه وان كان هناك للمواطنين العرب للدخول والخروج الى غزة معبر رفح، فإنه متوفر للغزيين أيضاً خيار آخر: معبر اريتز! يا سلام لندخل إلى الخيار الآخر، وهو الأصعب فعلياً. يطل "معبر ايرز" على الجانب الآخر من الوطن. الوطن الذي لم نره إلا بالصور رغم أننا في البقعة نفسها التي تسمى فلسطين، لأن معبر مصر لا يفتح بشكل دائم ومتقطع وغير معروف ومفاجئ، يلجأ بعضنا إلى ان يختار ايريتز ليكون ممراً إلى الضفة الغربية والأراضي المحتلة أو الأردن. بعض الأحيان يسمح الاسرائليون للحالات المرضية المستعصية بالمرور عبر المعبر الذي يسيطرون عليه. او لأن جهة دولية ما قد سعت في تقديم الطلب، بينما يلجأ الآخرون إلى الشؤون المدنية. لكن إذا كنت تحت سن الأربعين فلا تفكر نهائياً بالموضوع لأنك «مرفوض بحكم السن». في الحالات الأخرى يجب ان تقوم بتقديم الطلب قبل شهر ونصف على الأقل، وان تكون لديك حجة مقنعة لتمر من هذا المعبر. وفي النهاية، الارجح ان تأتيك رسالة مفادها أنك" مرفوض أمنيا". أي إنك مقاوم "تنتمي لجهة حزبية أو قد فعلت شيئاً يناهض الاحتلال».
"نعم أنا مرفوض أمنياً.. وممنون لله لانكم معتبريني هيك". ان يعتبرني الاسرائيلي كذلك، مفهوم، أما الشقيق المصري فماذا يمكن ان يقال في سلوكه؟