«أهلاً بكم في البحرين... جزيرة اللؤلؤ الثمين، والاقتصاد النامي...». عبارةٌ بصوتٍ أنثويٍّ رخيم ولكنةٍ بريطانية، تروجها الشركات السياحية لكل وافد إلى البحرين. تسعى تلك الشركات إلى رسم صورة نمطية للجزيرة الخليجية: طرقات واسعة، ومناطق تجارية، وسياحية جاذبة للاستثمارات.عمليا هذا يُنافي الواقع. غالباً ما يكون ذاك المشهد من نسج الخيال. فتلك الطرقات حوّلتها العائلة الحاكمة إلى ميدان حربٍ ضد المتظاهرين. أيدي القوى الأمنية لا تخرجُ عادةً بيضاء، بل في معظم الأوقات ملطّخةً بدماء المتظاهرين. وإن أمعنت النظر جيداً، فسترى في يد كل شاب منهم ريشة، وفي يد ذاك الذي سقط شهيداً، دلو دهان كان أبيض قبل أن تغير دماؤه لونه.
وجد البحرينيون في الفن سبيلاً لمواجهة آلات القمع «الملكية». اتخذوا من الريشة والألوان أسلحة يتحدّون بها الحكم. يفرغون بها مطالبهم وشعاراتهم على الجدران، التي يعيش خلفها السكان في عزلة عن عيون العالم، في ما يقارب «اللاوجود». فجسّد أحد فنّاني «الغرافيتي» ذلك، راسماً «لو كان هناك من يسمعنا ما كتبنا على الجدران».
مع تحوّل جدران الساحات الافتراضية إلى منابر للاحتجاج، سارعت السلطات «الملكية» إلى مراقبة وسجنِ كل مغرّدٍ أو متفاعلٍ رافضٍ لممارساتها. ما دفع الشبّاب إلى تحويل الجدران، الحقيقية، إلى منصّات تعبيرٍ عن الرأي، تعكس ما في داخلهم. وحملت شعارات الجدران معانيَ مبسطة، لكنّها كفيلة بأن تعبر عن مكنونات شعب ثائر، على مدى عقود من تمثيل «ملكي»، غير دستوري.
تنوّعت الأساليب. منهم من يرسم عبارات أو كاريكاتير، فيما بعضهم يرسمون وجوه الثوار والأطفال، الذين قتلوا إما بالرصاص الحي أو اختناقا بالغاز المسيل للدموع، وإما تحت وطأة التعذيب، لكن الهدف واحد؛ «نريد الحرية». وهو أكثر الشعارات انتشاراً على الجدران.
كذلك، تتصدر شارة النصر المشهد «الغرافيتي»، وشعار دوار اللؤلؤة الذي أنشئ عام 1982، وهدمته السلطة في 2011. ذلك لرمزيته «السيئة» في نظرها. فقررت إخراجه من جغرافيا الجزيرة، ولكنه دخل تاريخ الثورة، وأصبح رمزاً خالداً لها. هو مرسومٌ على معظم جدران مدن وشوارع المملكة، بعدما كان يوماً في العاصمة المنامة.
وفيما يقتصر عمل السلطة على إخفاء الأصوات المطالبة بالحقوق، وكمّ أفواه الإعلاميين، والحرص على منع الصحافة من التطرق إلى ما يمس أمن المملكة القومي، تزداد الشعارات على الجدران، التي يريد منها الشعب إيصال صوته. «إن نجحتم في إسكاتنا فلن تنجحوا في إيقافنا عن الكتابة»؛ «إن قطعتم يدنا فسنكتب باليد الأخرى»؛ «إن منعتم كل الألوان من الأسواق فسنكتب بدمائنا».
رافق الفن «الغرافيتي» أو «الكتابة»، البحرينيين في مسيرتهم الاحتجاجية منذ عقود. ففي التسعينيات، كانت الكتابة على الجدران، وخصوصاً تلك المطلّة على الشوارع الرئيسية، هي الوسيلة الوحيدة لإيصال الرسائل إلى السلطة. فراقبتها الشرطة، كي لا تتشوّه صورة المملكة في أعين العالم، فهي «إصلاحية تقدميّة» ومدافعة عن حقوق الإنسان.
أما للبحرينيين، فالأمر بالنسبة إليهم لا يحتاج إلى موهبة، بل إلى جرأة الخروج لتلك الأزقة المليئة بالأسلحة والاستخبارات، إضافةً إلى امتلاك موهبة السرعة والخفّة للهروب من الموت، كما أن جدران البلاد تمتاز بتعدد طبقاتها الصباغية واللونية، بسبب المحو وإعادة الرسم. فيجعل «الغرافيتيون» من ذلك تحدياً آخر. تراهم في عمليات كرّ وفر. حالما تمحو الأجهزة الأمنية الشعارات، حتى يعودوا مقنّعين ليلوّنوا الجدران من جديد.
أحد «غرافيتيّي» الثورة يؤكّد أنه «سيكتب أي شعار يحلو له، ولكن بكل أدب..»، متيقناً أن السلطة «ستمسحها»، ولكن ذلك لن يثنيه عن الكتابة مجدداً «ومرّات أخرى، حتى نحصل على ما نريد».
تردّ السلطة على كل فعلٍ ثوري سلمي: تسحب الجنسيات، وتمنح الجنسيات. تهدم الجدران، وتعيد طليها. وسائل شتّى لتمحو الذاكرة الجماعية، لكنها فشلت، لأن المعارضة، من «مرآة البحرين» (صحيفة إلكترونية بحرينية وثّقت الجداريات التي طرشت بالشعارات وصور المعتقلين والشهداء في كتاب بعنوان «جدران 14 فبراير»)، باتت على جدران شبكات التواصل الإجتماعي. فالذاكرة التي تعمل السلطة جاهدة على طمسها، نجح المعارضون في تمييعها على شكل رسوم وشعارات.
برغم المقاومة السلمية لمنهج السلطة، فإن خوفاً يسيطر على البحرينيين. الخوف من تغيّر معالم البلاد. والخوف من أن يكبر الأطفال مؤمنين بأن أمراء النفط هم «ولاة أمر المسلمين».
كذلك، فإن إرادة الشعب كبيرة، فهو اختار لنفسه نهجاً سلمياً وحضارياً، فاعتُقل وقُتل وهُجّر. استمر هذا الشعب، وثار فنيّاً، أيضاً، فبات الشباب كـ«الأشباح»، حتى إذا همّت القوى الأمنية بالمغادرة، بعد إزالتها رسما على أحد الجدران، تعثّرت برسم جديد على الجدار المقابل.