في نيسان 2013، حذّر «صندوق النقد الدولي» البحرين من «كارثة» إذا استمرت سياساتها الإنفاقية على ما هي عليه. تقرير «صندوق النقد» آنذاك جاء بسبب ارتفاع الدين العام، ودعا البحرين إلى رفع الدعم عن الكهرباء والماء واللحوم والمحروقات والقمح، ورفع الرسوم الإدارية والتعرفة الجمركية، وتجميد التوظيف في الحكومة. لم يكن النفط قد شهد هبوطاً حاداً، بل كان برميل النفط يباع بأكثر من 100 دولار وفق الأرقام الرسمية في تلك الأيام، ولكن البحرين، التي تصرف أكثر من ثلث موازنتها على العسكرة، تكبدت مصاريف هائلة بسبب سياسات القمع المعتمدة في مواجهة الحراك المطلبي الذي اندلع في شباط 2011.
وفي 2013 أيضاً، نشرت «منظمة بحرين ووتش» وثيقة مسربة عن تخطيط البحرين لاستيراد 1،6 مليون قذيفة و90 ألف قنبلة يدوية من مسيلات الدموع. ثم مع مطلع 2014، ألقت السلطات بالون اختبار على المواطنين، بعدما سربت الصحف مذكرة حكومية تكشف عن نية المنامة رفع الدعم عن اللحوم مقابل تعويضات نقدية للمواطنين بواقع خمسة دنانير للبالغين ودينارين ونصف لغير البالغين، وبرميل النفط كان في تلك الأيام (كانون الثاني) أيضاً يفوق 100 دولار.
الحقيقة المرة تكشفت بعد أشهر بسيطة من ذلك العام، فقد اكتشف العالم أن الأزمة الاقتصادية التي بدأت تلقي ظلالها على البحرين كانت نتيجة سياسة الإنفاق الهائلة على العسكرة. فنشرت صحيفة «مرآة البحرين» وثائق مسربة كشفت عن استئجار البحرين 499 دركياً أردنياً للإسهام في قمع المواطنين. الأرصدة البنكية التي انفردت الصحيفة بكشفها أثبتت صرف 1،8 مليون دولار شهرياً على الدركيين المستأجرين، وفي أعقاب ذلك نشر موقع «CNN» الأميركي معلومات نقلها عن نائب في البرلمان الأردني تفيد بوجود 2500 أردني يعملون في الأجهزة الأمنية البحرينية من المتقاعدين.
مظاهر الفقر والجوع بدأت بالبروز وستكون واضحة للعيان خلال أشهر

حادثة الدرك الأردني لم تكن الفضيحة الوحيدة، فقد قال تقرير عسكري صادر عن معهد «استوكهولم الدولي لبحوث السلام ـSIPRI»، إن البحرين حلّت في المرتبة الثانية بعد العراق من حيث نسبة الزيادة في الإنفاق العسكري، وذلك بمعدّل 26%، ليصل إجمالي الإنفاق العسكري في 2013 إلى مليار و236 مليون دولار (467 مليوناً و208 آلاف دينار بحريني). وأوضح التقرير أن الزيادة في البحرين بلغت 110% بالمقارنة مع عام 2004، فيما لم يتخطّ مجموع نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ 2004 نسبة 60%، لتصنّف البحرين ضمن أكثر 23 بلداً على مستوى العالم من حيث الزيادة في الإنفاق العسكري.
التقرير قال أيضاً إنّ من المرجح أن الزيادة في الإنفاق على الدفاع مرتبطة بالمشتريات الأخيرة من الأسلحة التي تستخدم في قمع الاضطرابات الداخلية. وفي العام نفسه، أعدت شركة «HIS» الأميركية تقريراً عن تصنيف الجيوش في الشرق الأوسط، قالت فيه إن البحرين لديها جيش مكوّن من 13 ألف جندي ويمتلك 180 دبابة و105 طائرات، وينفق سنوياً 730 مليون دولار.
هذه المعلومات تقدم عيّنة بسيطة من حجم الإنفاق الحكومي على العسكرة، وصفقات السلاح، فضلاً عن حملات العلاقات العامة التي تحاول تحسين سمعة البحرين الحقوقية السوداء أمام العالم، عبر حملات «هذه هي البحرين»، بجانب صرف الملايين كمميزات للأسرة الحاكمة، تأتي في صور متعددة أبرزها نزوات ناصر، الابن المدلل للملك.
بالعودة إلى تقارير «صندوق النقد الدولي»، يقول اقتصاديون إن «صندوق النقد» لا يملك حلولاً سحرية، هو يقدم استشارته لهذه الدول، إن ارتفع دين الدولة، قال لها ببساطة: خفضي إنفاقك، قللي مصروفاتك، لا حلول سحرية في هذا الشأن، أي إن تقارير «صندوق النقد الدولية» هي وصفات ثابتة لجميع الدول. لكن ماذا فعلت البحرين؟ بالتأكيد استغلت تدهور أسعار النفط، في النصف الثاني من 2015 لخدمة أجندتها، وما كانت تريد فعله في 2013 أيام ارتفاع أسعار النفط، صار سهلاً تطبيقه الآن، فكل الدول الخليجية تجري خطوات مشابهة الآن، أما السخط الشعبي، فهو آخر ما تفكر فيه.
والبحرين في واقع الحال لا تملك خيارات عدة أمام الأزمة الاقتصادية. تقليل الإنفاق العسكري يعني الرضوخ للمطالب الشعبية، وهو أمر مرفوض، أما المساعدات الخليجية (السعودية والكويتية والإماراتية خاصة)، فقد توقفت، وباتت كل دولة تفكر في نفسها واقتصادها ووضعها المالي.
عموماً، خطت البحرين أولى الخطوات في رفع الدعم عن اللحوم، أخّرته لشهرين، لكنها نفذت قرارها في نهاية المطاف (تشرين الأول 2015)، واستمر بعض باعة اللحوم في الامتناع عن التداول لـ49 يوماً، لكن أحداً لم يسمع لهم أصلاً، وبذلك قالت المنامة إنها وفرت أكثر من 22 مليون دينار. كذلك لم تخفِ الحكومة نيتها رفع الدعم عن سلع وخدمات أخرى، ثم عممت وزارات حكومية رسالة مفادها وقف ساعات العمل الإضافية ترشيداً للإنفاق.
ومع مطلع 2016، أعلنت «هيئة النفط والغاز» أنها بدأت تطبيق القرار الحكومي الجديد في رفع أسعار الديزل والكيروسين، وبعد أقل من أسبوعين قررت الحكومة رفع أسعار البنزين بأكثر من 50% دون الرجوع للبرلمان الصوري، وأعلنت «هيئة الكهرباء والماء» التسعيرة الجديدة التي ستدخل حيز التنفيذ في آذار المقبل، وأجبرت المواطنين من ذوي الدخل المحدود على توقيع تعهد يسمح للهيئة باستقطاع الفاتورة الشهرية مباشرة من الحسابات البنكية، وختمت الهيئة قراراتها بفرض مبلغ ثابت «دينارين» على كل فاتورة لجميع المشتركين دون استثناء، صنفتها رسوماً إدارية.
ارتفاع أسعار المحروقات والكهرباء والماء، أسهم في ارتفاع سلع وخدمات كثيرة تعتمد عليها، وبرزت مشكلات أخرى في قطاعات مهمة، كالدواجن، التي طالب مربوها برفع الأسعار 25% بسبب ارتفاع المصاريف. أما البحارة، الذين وعدوا سابقاً بإبقاء دعم المحروقات لهم كي لا تتأثر أسعار الأسماك، فاكتشفوا أن الدولة لم تستثنهم، وهو ما دفعهم إلى اعتصامات لم تفض إلى شيء يذكر سوى تقديم تقرير لوزير الطاقة عن آثار رفع المحروقات على هذا القطاع، وهم على ما يبدو سلموا للأمر الواقع وقرروا رفع أسعار الأسماك من جهتهم.
هذه القرارات لم تقف عند هذا الحد، بل عمدت الحكومة إلى رفع الرسوم أينما استطاعت، وذلك لجباية أكبر قدر ممكن من الأموال من جيوب المواطنين، وبذلك رفعت «المواصلات» رسوم مغادرة البحرين جواً خمسة دنانير، وقررت «المؤسسة العامة لجسر الملك فهد»، الذي يربط البحرين بالسعودية، رفع تعرفتها أيضاً، أما «العدل» فقررت رفع رسوم التنفيذ، والمنافذ رفعت الضريبة الجمركية على التبغ 200% والكحول 255%.
كل ذلك لم يكن كافياً على ما يبدو، ففي مرئيات وزارة الأشغال التي قدمت إلى المجلس النيابي لمعالجة «الازدحامات المرورية»، تقدم وزيرها بمقترحات تضمنت «رفع رسوم التسجيل على المركبات الإضافية التي تزيد على اثنتين لكل أسرة، وربط رسوم تملك السيارات بدخل الفرد، ومراجعة ضريبة الجمارك على السيارات، ودراسة إمكانية فرض رسوم على المناطق المزدحمة، ودراسة إمكانية تطبيق ضريبة إضافية على مستخدمي سيارات الأجرة، ورفع تعرفة عدادات مواقف السيارات».
كذلك بحثت وزارة التربية في القوانين، ووجدت أن هناك قانوناً للتعليم الإلزامي على المواطنين، والتغيب لمدد طويلة دون عذر من الطالب البحريني، يجبر ولي أمره على دفع غرامات مالية تصل إلى 100 دينار، لتقرر تفعيل هذا القانون لزيادة الإيرادات.
بالطبع، إن قرارات «الحكومة العجوزة» التي يرأسها خليفة بن سلمان منذ أكثر من أربعة عقود، لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستبحث عن حلول ونوافذ لفرض المزيد من الضرائب على المواطنين. لكنها تغفل أمراً مهماً لا يفوت الدول المتقدمة، وحتى دول الجوار الصديقة لها. إن الأمن الغذائي هو أحد أهم عوامل الاستقرار السياسي للبلدان، هذا هو السبب الرئيسي لدعم دول فقيرة للمواد الأساسية، وإن إغفال هذا الأمر، يؤدي إلى ثورات جياع، تطيح أنظمة وحكومات.
حكومة البحرين، التي تعادي 70% من مواطنيها وكلفتها حالة العداء هذه صرف مليار دولار سنوياً على الأمن والعسكر، استطاعت بفعل عوامل عدة أبرزها التشطير العمودي للمواطنين على أساس طائفي، أن تستميل 30% الأخرى إلى جانبها، وتمكنت بفعل أموال البترودولار من شراء المواقف الغريبة، ولاقت دعماً غير محدود من السعودية ـ الشقيقة الكبرى، ولكن ساكن «قصر الرفاع» عليه أن يعلم، أن الدعم اللامحدود من الـ30% طوال السنوات الخمس الماضية، لن يكون موجوداً وحكومة عمه تقود عمليات التقشف التي تستنزف جيب المواطن.
البلد على حافة الإفلاس، كلنا نعلم ذلك. الفساد المستشري في الدولة بالتأكيد لم يتوقف، بل شهد ازدياداً من مسؤولين لديهم شعور بأن هذا البلد شارف على الانهيار، ويتعين عليهم سرقة أكبر قدر ممكن من مقدرات الشعب، متى وكيفما استطاعوا، بل إن الحكومة اشترت لوزرائها وهي تقرر رفع أسعار البنزين، سيارات «بي إم دبليو» جديدة.
من الطبيعي ونحن على حافة الإفلاس هذه أن نرى السياسية الحكومية وهي تنعكس على الشعب شيئاً فشيئاً: مسؤولون يزدادون ثراءً، وشعب يزداد فقراً. مظاهر الفقر والجوع بدأت بالبروز، وستكون واضحة للعيان خلال الأشهر المقبلة. هذا الجنون في رفع الأسعار والدعومات، لن يخلف إلا ثورة جياع، هي نبوءة إبراهيم شريف التي تحدث عنها، ها هو الرماد بدأ بالتلاشي، العاصفة هبّت، فمتى نرى الجمر الذي تحت الرماد؟

* الأمين العام لجمعية «وعد» المعارضة
** صحافي بحريني