ولدت مريم عبد الهادي الخواجة عام 1987 في دمشق. خروج والديها من البحرين بعد أحداث الثمانينيات، أثّر في حياة أسرة بكاملها. «الأثر الأكبر كان على والدتي، بسبب عيشها في تلك الأجواء». حينما كان عمر مريم سنة ونصف سنة، طلبت العائلة اللجوء السياسي إلى الدنمارك. هناك عاشت عائلة مريم خواجة وضعاً صعباً في مخيّمات اللجوء؛ «كان لكلّ عائلة غرفة، وكان الحمّام مشتركاً بين عدّة عائلات، كان الوضع مزرياً»، تقول.خطّط والدا مريم بصورة دائمة لإمكانية عودة العائلة إلى البحرين. هذا ما جعلها تدرس في مدارس إنكليزية خاصّة، لتصبح اللغة الإنكليزية لغتها الأم. تصرف معظم كلامها عن تجربة والدها عبد الهادي في المعتقل، ومعه شقيقتها الناشطة زينب التي «زارت» السجن أكثر من مرّة خلال سنوات الثورة.
في الدنمارك، اشتركت العائلة في «النادي البحريني الدنماركي» مع إحدى وعشرين عائلة بحرينيّة أخرى. كانوا يلتقون كل سبت لتقديم البرامج الوطنية والأناشيد. وهناك، كانت مريم ترى البحرين، بلداً أشبه بجنّة تحلم طوال الوقت بالرجوع إليها. وحينما رجعت العائلة في 2001 إلى المملكة، «اكتشفتُ أن البحرين أخذت تلك الصورة في رأسي، بسبب اشتياق أمي وأبي إليها».
يراودها حلم ثورة أخرى في الخليج وتحديدا في «السعودية»

عادت مريم إلى البحرين بالقصص التي سمعتها عن أحداث التسعينيات. عاشت خيبتها الأولى حينما راحت تكلم الناس في الشارع عن حقوق الإنسان. تفاجأت كيف جعلهم الخوف والرعب كالتماثيل، بعد انتفاضة خرجوا منها بقتلى ومعذبين ومفقودين. أما مريم وعائلتها، فبقيت ترافقهم الروح الثورية ومحاولة تغيير العالم. لا تزال الشابة تستقي ذلك من الحكايات الجميلة عن شعبها، الذي ينزل بثورته إلى الشارع كل عشر سنوات تقريباً. وضْع بدأ منذ العشرينيات، وصولاً إلى ثورة «14 فبراير» في عام 2011، المستمرّة حتى اليوم.
تحكي مريم عن الانتفاضات السابقة التي كان يقودها رجال دين. «انتهى ذلك مع بداية الربيع العربي، وبداية ثورة قادها الشباب على الأرض ومن وراء شاشات الإنترنت. قادة الثورة هذه المرة لم يكونوا من المتديّنين أو السياسيين أو كبار السن». تضيف: «ثورتنا لم تكن يوماً لهم، لم نخرج كطائفة واحدة، خروج أصدقائي السنّة في تظاهرات 14 فبراير، أظهر لي أن تغيّراً كبيراً حدث في البحرين». تبتسم الخواجة ساخرة: «كيف يمكننا أن نصدّق أن إيران قادرة على تحريك نصف الشعب؟».
اعتقال والدها الحقوقي المعروف، في 8 نيسان 2011 كان مفاجئاً لها. «لم أتوقّع اعتقاله، والدي معروف عالمياً كناشط حقوقي». والدها المتّهم بمحاولة قلب نظام الحكم الملكي، تعرّض خلال سجنه لأسوأ أنواع التعذيب، أفضت إلى إضرابه عن الطعام لمدة فاقت 70 يوماً. كانت مريم في تلك الأثناء تعطي دروساً في اللغة العربية في الولايات المتحدة، عبر منحة «فولبرايت» للتبادل التعليمي. عرفت عن اعتقاله وضربه أمام العائلة من «تويتر». ساورها شعور بضرورة العودة إلى البحرين. «أنقذني أصدقائي بمنعي من العودة في تلك اللحظة، كان يمكنني أن أكون في السجن في هذه اللحظة»، تقول.
استيقظت الخواجة صباح 22 تموز 2011، على اتصال أحد الصحافيين من الدنمارك يخبرها بالحكم، واعتقال أختها زينب داخل المحكمة. «أقفلت الخط بوجه الصحافي ودخلت تويتر لأتأكّد، ثم اتصلت بأمي لتخبرني بما سيغيّر حياة العائلة إلى الأبد».
عملت مترجمة للصحافيين الأجانب منذ 2006، وأصبحت تجول حول العالم للحديث وعرض قضايا البحرين. عام 2009، عرضت مريم سجلّ البحرين السيئ في مجال الحرّيات الدينية أمام مجلس الشيوخ الأميركي. وبعد رجوعها إلى البحرين، بدأت العمل في «مركز البحرين لحقوق الإنسان». هنا، كان بانتظارها مهمّات كثيرة، خصوصاً بعد اعتقال كثيرين في تلك المرحلة، 15% منهم من الأطفال. «كانت وظيفتي كتابة تقارير بالإنكليزية عمّا يحدث من اعتقالات للخارج. والكتابة للخارج عن البحرين، تُعدّ خيانة عظمى بالنسبة إلى النظام».
تضيف: «في نهاية آب 2010 أصدر والدي قرار ترحيلي إلى بريطانيا خوفاً عليّ من الاعتقال. في غضون 24 ساعة وصلت إلى لندن. هناك واصلت العمل على قضايا البحرين، كنت ألتقي الحكومات الأجنبية بصعوبة، يستمعون إليّ، ويشكرونني، ولا يحدث أي شيء بعد ذلك».
قرّرت مريم الصبية الصغيرة، العودة إلى البحرين مع بدء ثورة الغضب قبل خمسة أعوام. قرار العودة والمشاركة في ما يحدث لم يكن من دون ثمن، دفعته كغيرها من الثوّار البحرينين. توزّع نشاط مريم في الأيام الأولى من الثورة بين العمل مع المنظمات الحقوقية التي تأتي من الخارج، والتوثيق لـ«مركز البحرين لحقوق الإنسان»، ومرافقة الصحافيين الأجانب إلى الأماكن التي تحدث فيها احتجاجات بصفتها مترجمة.
في تلك الأيام، تعرّضت الخواجة لأول محاولة اغتيال، في أثناء دخولها إلى تغطية تظاهرة في قرية بني جمرة مع أحد الصحافيين الأجانب. «أوقفت سيارتي على جانب الطريق، بعدما سبقنا القمع إلى القرية، لتجيء سيارة الأمن على مقربة منا، أخرج أحدهم سلاحه من النافذة وأطلق النار علينا مباشرة، برغم معرفته بوجود صحافي أجنبي في جواري».
تصف لنا الخواجة دوّار اللؤلؤة خلال أحداث الثورة بـ«مدينة داخل مدينة». خيمة إعلام وإنترنت ومترجمين لكل اللغات، وشاشات ضخمة لمشاهدة الثورة في تونس ومصر، ونرجيلة. تداول الإعلام الغربي اسم المناضلة الشابة في نيسان 2011، بعدما أوقفت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، هيلاري كلينتون، خلال مشاركتها في «منتدى أميركا والعالم الإسلامي». حلّت كلينتون ضيفة شرف على المنتدى، تبعتها الخواجة بعد نهاية الحفل.
«ركضت باتجاهها وأنا أصرخ لتتوقّف وتسمعني، نسيت طاقم الحرس الخاصّ الذي كان يحاول اللحاق بي. حصلت على دقيقة واحدة لأخبرها عن اعتقال أبي، وأزواج أخواتي الذين لم نكن نعلم عنهم شيئاً. أخبرتها أن أقل ما يمكن أن تساعدنا به، هو العمل لوقف بيع الأسلحة في بلدي». فيديو لقائها القصير بكلينتون، انتشر بكثافة في البحرين وخارجها وجعل الكل يسأل عن اسم تلك الصبية التي واجهت هيلاري.
اليوم تنظر مريم، التي اختارتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية من ضمن أفضل 100 مفكّر عالمي، إلى الثورات بمنظور «حقوق الإنسان». بالإضافة إلى ثورة بلدها، يراودها حلم ثورة أخرى في الخليج. تقول «السعودية» وهي تبتسم بمرارة. «سطوة هذا النظام الملكي تشبه العنكبوت. خيوطه ممتدّة في كل مكان. النفط وعلاقاته مع الولايات المتحدة، أثّرت بسوء في كل بلدان الربيع العربي».
أوقفت مريم الخواجة في 30 آب 2014 في مطار البحرين في حال وصولها من الخارج. وأخلي سبيلها بعد توقيف دام عشرين يوماً، وسُمح لها بمغادرة البحرين، لكنها أدينت غيابيّاً بالاعتداء على الشرطة لحظة اعتقالها وحُكم عليها بالسجن لمدة عام. تتبادل الأدوار النضالية مع أختها زينب التي حُكمت أخيراً بتهمة محاولة زيارة والدها بالقوة، وهو الذي يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة!
ترسم مريم خطوات أحلامها على خطى التغيير والديموقراطية الحقيقية في البحرين والعالم العربي. مشاريعها لا تنتهي وحقيبة سفرها جاهزة دائماً، هي التي ودّعتنا بجملة واحدة، تختصر كل الأسئلة والإجابات قائلة: «حياتي ملك الثورة».