حلب | من المسرح والأدب والفكر إلى بؤرة للنهج التكفيري تختلط فيه التكبيرات مع صرخات المعتقلين، ولتتناثر حجارته، أمس، بقصف أميركي على رأس السجين والسجان، هذه حكاية المركز الثقافي في جرابلس!غارة واحدة لطيران «التحالف» لم تكن كافية لتسوية مبنى المركز الثقافي العربي في جرابلس (110 كم شمالي شرق حلب) بالأرض. ثلاث غارات استهدفت المقر الرئيس لـ«داعش» و«المربع الأمني» في المدينة التي بقيت بمنأى عن الغارات طيلة الشهور الثلاثة الماضية.

الضربة التي استهدفت المركز، الذي بلغ من العمر عقده الرابع، كانت قبيل توجه رتل من عناصر «داعش» للقتال في عين العرب التي تبعد نحو أربعين كيلومتراً إلى الشرق.
الضرية تمثل نهاية مأساوية لأهم الصروح الحضارية في البلدة الفراتية النائية، القائمة على أنقاض «قرقميش»، حاضرة إحدى الممالك الآرامية.

البداية مع «الحر»

في السادس عشر من تموز 2012، غادر موظفو المركز مكاتبهم مع اقتحام مسلحي «الجيش الحر» للمدينة ومحاصرة عناصر الشرطة والأمن في مبنى مديرية المنطقة. وبعد ساعات كان العشرات منهم ينهبون محتويات المركز، وبينهم أحد موظفيه، وهو مخرج مسرحي شاب يدعى نضال مواس. خرج الفنان في التظاهرات المطالبة باسقاط النظام، وجمع التبرعات من الداخل والخارج لمصلحة «الثورة». حافظ على لحيته لكنه حفّ شاربيه، ثم تنقّل بين الكتائب المسلحة «المعتدلة» منها و«المتطرفة»، لينتهي الأمر به تكفيرياً وليلقى مصرعه في صفوف «داعش».
يتذكر موظف حكومي لا يزال مقيم في جرابلس النشاط الأخير للمركز: «ثلاثة أيام احتفالية للأطفال، وفرقة موسيقية، وورش رسم وفنون تشكيلية عرض مسرحي لفرقة أطفال المدينة».
الرجل الذي يرفض ذكر اسمه حفاظاً على حياته يروي أنّ «أسماء لامعة في الشعر والادب والفن استقبلها المركز لتحاور جمهور المدينة من مختلف الطيف الفكري والسياسي... تدمير بنائه نهاية مفجعة ومعبرة عما جرى في بلدنا، لكن تدميره مجازاً كان منذ اقتحامه من المسلحين».
المفارقة أنّ العمل المسرحي لفرقة أطفال المدينة الذي أخرجه نضال مواس كان حول دور الأطفال في حماية المنشآت العامة من العبث والتخريب. «مواس» الذي انضم لـ«الثورة» كان في طليعة مقتحمي المركز الثقافي، حيث شارك مع آخرين في نهب الحواسيب العشرة في «نادي الانترنت» التابع للمركز، فيما جرى تمزيق واتلاف آلاف الكتب واللوحات الفنية والتماثيل.
كواليس مسرح المركز الثقافي تحولت إلى غرفة تحقيق مع المخطوفين والمعتقلين، من رفاق الأمس وشركاء الأمسيات الأدبية والفنية الذين أصبحوا في عرف الثائرين «شبيحة وخونة». وبعد سيطرة «داعش» على جرابلس طلي المقر بالأسود، ولم يعد لفرقة الكورال مقر وسط انتشار ثقافة التكفير. وبث الإسلاميون «شرعييهم» في الأحياء لإقناع الأهالي بحرمة الغناء ولاستتابة من بقي في المدينة من أعضاء الفرقة.
المركز الثقافي تصدّر واجهة الاحداث بداية العام الجاري، عندما حوصر فيه بضع عشرات من مسلحي «داعش» لأكثر من أسبوع حتى وصلتهم التعزيزات، حيث تمكنوا من أسر عدد كبير من مسلحي «الجيش الحر» الذين حزت رؤوسهم، وعلقت على أسوار المركز في مشهد تناقلته وسائل الاعلام.