رام الله | يبدو، في الحالة الفلسطينية، أن علاقة جدلية تربط الاقتصاد بالسياسة. فالمتتبع لواقع الحركة التجارية والاقتصادية في الأسواق الفلسطينية وعلاقتها بإسرائيل، يجد أنّ السياسة تقود الاقتصاد، وخاصة بعد اتفاقية أوسلو، ثمّ بروتوكول باريس الاقتصادي، ثم صار البروتوكول جزءاً من «أوسلو» في إطار الاتفاق السياسي الأمني بين الطرفين، بمعنى أن العلاقات الاقتصادية ضّمت في منظومة علاقات سياسية أمنية قادت إلى كون الاقتصاد الفلسطيني خادماً للإسرائيلي.

تلك التبعية تركت أثرها في الاستيراد والتصدير داخل السوق المحلية الفلسطينية عبر سلسلة قيود إسرائيلية على حركة المعابر والحدود، وفرض الضرائب، إضافة إلى منع إصدار تصاريح لنقل البضائع. ومن أكثر القطاعات المتأثرة الزراعة التي تعتبر مهنة تعتاش منها آلاف العائلات الفلسطينية، وخاصّة في المناطق الممتدة على سهل مرج بن عامر، سلّة فلسطين الغذائية الأولى.
ومنذ أيلول 2014 بدأ عام «التبوير»، أو ما يعرف بالسنة الكبيسة الممتدة حتى أيلول 2015، وهو عام ذكر في التوراة اليهودية، ويأتي بعد انتهاء كل دورة تمتدّ لسبع سنوات وفق التقويم العبري. تنصّ التعاليم الدينية اليهودية، في هذا العام، على منع فلاحة الأرض وزراعتها وقطف ثمارها. نتيجة ذلك، يعتمد اليهود، ممن يلتزمون التعاليم الدينية، على شراء الخضر والفاكهة من الأسواق المحيطة، أي السوق الفلسطينية في الضفة المحتلة، في ظل الإغلاق المستمر على قطاع غزة، كما يجري الاعتماد على الأسواق العربية المحيطة، ومنها الأردن.
ومع بدء «التبوير» ارتفعت أسعار المنتجات الزراعية في الضفة متأثرة بازدياد التصدير إلى إسرائيل. ويقول المرشد الزراعي منذر صلاح، إن متابعة أسعار المنتجات الزراعية توضح أن هناك ارتفاعاً بسيطاً ليس سببه عام «التبوير»، بقدر ما يرجع إلى الانتقال الموسمي بين الصيف والشتاء، ووفق قاعدة العرض والطلب. وأنكر أن يكون لهذا «الارتفاع البسيط» إرهاق للمستهلك الفلسطيني.
رغم ذلك، لا يستفيد المزارع الفلسطيني من فارق الأسعار بين المنتج في السوق المحلية والسوق الإسرائيلية بقدر استفادة الوسيط من ذلك. المزارع عماد الصالح يشرح عملية التبادل التجاري بالقول: «التاجر هو الذي يتحكم في السوق وليس المزارع، إذ يعمل التاجر على شراء البضاعة من المزارع الذي يحصل على هامش ربح يصل إلى 5% كحد أعلى، ثم يبيع التاجر البضائع للسوق الإسرائيلية، ويحقق ربحاً يتراوح بين 30% إلى 50% كحد أدنى».
ونتيجة لغياب سياسات اقتصادية واضحة تدعم المزارع الفلسطيني وتؤكّد حقّه في أرضه كجزء من برنامج الصمود والتصدي في وجه الاحتلال، تجري عمليات البيع والشراء من دون وجود اتفاقات واضحة. هنا يقول المدير العام للتسويق الزراعي في وزارة الزراعة الفلسطينية، طارق أبو لبن، إن «العمل يكون بتعاقدات شبه شفوية بين ممثلي الحاخامات والطوائف اليهودية الملتزمة بعام التبوير، والشركات الوسيطة، والمزارعين المزوّدين، وذلك على كميّات تضاف تلقائياً إلى الإنتاج السنوي الطبيعي». ويضيف أبو لبن: «لن تؤثر هذه الكميات، التي يتم الاتفاق عليها مسبقاً، في كمية العرض والطلب في السوق الفلسطينية التي بقيت كما هي، لذلك تعود الاستفادة من الزيادة على الشركات الوسيطة فقط».
أما التاجر علام الأسمر، فيشتكي صعود «صيت» أرباح التجار الكبيرة التي تراجعت بعدما فرض الاحتلال وسيطاً إسرائيلياً ليتعاقد مع المزارعين بدلاً منهم، ما أثّر، وفق قوله، في عمل التاجر الفلسطيني، مضيفاً: «هذه العملية غير المنظمة (التصدير بسبب عام التبوير) أدّت إلى فائض من البضاعة في إسرائيل، لذلك لم يعد هناك ربح جيد».
هذه العلاقات غير الواضحة تظهر حجم الضعف الذي يعاني منه المزارع الفلسطيني والخسائر التي يتكبّدها سنوياً نتيجة مجموعة عوامل أشار إليها منذر صلاح، إذ يقول: «يواجه المزارع ثلاث مشكلات رئيسية هي فقدان المياه الكافية للري والزراعة، ومشكلة التسويق للاستفادة من عام التبوير، فضلاً عن إجراءات الاحتلال المتعلقة بإصدار التصاريح وإعادة التحميل».
ويعود أبو لبن ليؤكد أنّ المزارع الفلسطيني يحتاج إلى منفذ تسويقي أوسع يقلل إغراق السوق المحلية بالبضائع وكسادها، وهذا يتطلب «إيجاد شركات تسويق تضع خططاً لها انعكاسات على الآفاق التسويقية خارج فلسطين، ولا تعتمد على السوق الإسرائيلية فقط».
في ما يتعلق بالأسعار، يشير الأسمر إلى أنّ الاعتماد على تسعيرة يومية غير ثابتة يتحكم فيها التاجر أو الوسيط الإسرائيلي «ستعرّض المزارع في أغلب الأحيان لخسائر لن يستطيع تخطّيها وتعويضها على اختلاف المواسم الزراعية».