بات لأحداث الحرب في سوريا، بعدما مرّ على نشوبها قرابة عامين، سياق واضح يُستذكر اليوم على نحو «قصة» ترويها كواليس الطرفين «المتطاحنين»، كلّ منهما على طريقته، وضمن سياق من الوقائع الخاصة به. وثمة شيء مشترك في رواية الطرفين لوقائع «قصة حرب العامين» المستمرة، وهي أنّ كليهما وضع نصب عينيه إلغاء الآخر، مع الاستعداد لدفع أغلى ثمن مقابل ذلك، رغم شعورهما بأنّ هذا الثمن قد يكون الانتحار الجماعي.
ظاهرة «أبو المعتز»

كان يمكن، بحسب قيادي ميداني في دمشق _ بدأ انخراطه في الحراك مواطناً مدنياً وتحول الآن إلى سلفي _ ألا تصل القضية إلى هذا المأزق، «لو نفّذ الرئيس بشار الأسد كلاماً قاله لي يوم 21/ 11/ 2011». آنذاك كان الحراك سلمياً، وما استخدم خلاله من سلاح لم يتعدّ بعض المسدسات التي امتشقها البعض الذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، كردّ فعل على قتل الأجهزة الأمنية، خلال التظاهرات، أبناءهم أو أقرباء لهم.
يستذكر القيادي أوّل شخص حمل السلاح في الحراك السوري، وهو والد شاب جامعي يدعى معتز الشعار قتلته أجهزة الأمن خلال إحدى تظاهرات الحراك السلمي في دمشق. قال والده أثناء تشييعه: «لقد قتلوه وأنا سوف أقتلهم». في التظاهرة التالية خبّأ في وسطه مسدساً، ثم تخفّى بين صفوف المتظاهرين الخلفية، ومن هناك أطلق أول رصاصة في مسيرة الحراك العسكري، التي أصبحت تضمّ 300 ألف مسلح ببنادق، ومدافع، وصواريخ «ستينغر». تقليد «أبو معتز» أصبح لاحقاً ظاهرة اتّبعها كثيرون من أقرباء ضحايا التظاهرات.


قصّة أول مبادرة

يعود القيادي ليمسك بناصية روايته عن الفرصة التي ضاعت وكان يمكنها بنظره تلافي حالة الاستعصاء الراهنة. يقول يوم 21/ 11/ 2011، رتّب لي أشخاص لديهم صلة بالمعارضة والنظام موعداً مع الرئيس بشار الأسد، وذلك بصفتي حينها أحد قياديي الحراك في دمشق وريفها. وشكّل لقائي به أول مبادرة تجاه النظام من قبل الحراك الداخلي. وفي تلك الأثناء كان والدي، وهو شيخ قريب من السلفيين وأحد خطباء مساجد دمشق، مسجوناً لدى أجهزة الأمن. ولكنني خلال حديثي معه قلت للرئيس: «أنا هنا من أجل سوريا وليس من أجل إخراج والدي من السجن، فهو يستطيع أن ينتظر حتى يتمّ إخراجه من دون واسطة».
بمجرد وصولي إلى ردهة الطابق الذي يشغله، وجدت الرئيس واقفاً بانتظاري ليستقبلني على باب مكتبه. وبخطوات متناسبة مع خطواتي قادني إلى الجلوس بجانبه، وبدا مهتماً لسماع ما سأقوله. قلت له: «بصراحة، الحراك لا يزال حتى الآن سلمياً والسلاح المستعمل لا يتعدى كونه فردياً، ويعبّر أيضاً عن ردود فعل شخصية. الحلّ الآن منوط بإنشاء حكومة مشتركة تقودها المعارضة. فالحكومة الحالية المحسوبة على سيادتكم لا تستطيع حل المشكلة». قاطعني موافقاً، وأكد أنّ «الحكومة الحالية لا تستطيع حلّ المشكلة، ولو ظلّت تحاول خمس سنوات أخرى». فأجبت: «لماذا لا تحاول إحراجنا وتوافق على الحكومة المشتركة. ولتقل أيتها المعارضة، إذا كنتم قادرين على حلّ الأزمة، فخذوها». أجاب الرئيس: «كم حجم المعارضة»؟ قلت له: «إنها الأغلبية». لم يجب، لكنه عاد إلى نقطة جوهرية ركّز عليها طوال حديثه، ومفادها أنّه يريد منا، نحن حراك الداخل، أن ننظّم أنفسنا في أحزاب وتيارات سياسية كبيرة. وبرأيه التغيير يحدث من خلال دخول هذه الأحزاب الوليدة في تيارات شعبية واسعة إلى البرلمان والحكومة. ووعد بأنّه سيفسح الطريق للمساعدة، فيما لو نظّمت نفسها، وذلك من خلال إعادة صياغة الدستور والدعوة إلى انتخابات نيابية حرّة. وقال إنّه موافق على قيام حكومة مشتركة، ولكن نجاح كلّ هذه التجربة يظلّ مرهوناً بقدرة الحراك الشعبي الداخلي على تنظيم نفسه، وفرض وجوده الشعبي كتيار وطني عريض.


إعلان الجهاد

إثر هذا اللقاء، نشطت هيئات في الحراك الداخلي لوضع دراسات لإنتاج تصوّر جديد للواقع السوري، ولكن هذا المسار لم يظهر. وبنظر القيادي عينه، فإنّ نقطة الافتراق حصلت خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدمشق، وبصحبته مدير الاستخبارات الروسية الذي سلّم الأسد «خطة بديلة»، هي الحلّ العسكري، ثمّ إثر ذلك قصف بابا عمرو، في حمص، في الشهر الأول من عام 2012. وتتالت الأحداث باتجاه رسم جبهات على الميدان.
في أوائل عام 2012، وبعد تسعة شهور من عمر الحراك السوري، اتخذ قرار إعلان الجهاد. سبعون عالماً ضمن «هيئة علماء الشام» أفتوا بـ«أنّ الجهاد في سوريا هو فرض عام على كل مسلم». كان الشيخ يوسف القرضاوي قد سبقهم لإنتاج التبرير الشرعي، إذ رأى أن «الشرع يقول إنه عندما يولد طاغية يجب أن تفزع الأمة لقتاله».
لقد «مَرحل» شيوخ السلفية السوريون إعلان الجهاد. كانوا يدركون أنّ هذا القرار يحتاج إلى تمهيد حتى يتقبّله السوريين. فهم بلا شك لاحظوا أنّ المواطنين الذين خرجوا في التظاهرات الأولى لم يكن ضمن مطالبهم إسقاط النظام، بل رددوا شعارات مطلبية. وحينما كان يندسّ بينهم نشطاء إسلاميون، ويرفعون شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، كان الكثير من المتظاهرين ينفضّون. بعد ذلك صار ممكناً رفع هذا الشعار من دون مشاهدة انسحابات من التظاهرة. ثم عن سابق تصوّر وتصميم، طوّر الإسلاميون شعارات الحراك ليصبح «الشعب يريد إعدام الرئيس»، ثمّ «الشعب يريد إعلان الجهاد». ونحن الآن فعلاً في هذه المرحلة التي خطّط الإسلاميّون للوصول إليها منذ البداية.


بين الشيخين «سرور» و«العرعور»

تطلّعت الكثير من أنظار الإسلاميين في بدايات الأحداث إلى الشيخ محمد زين العابدين بن نايف سرور، بوصفه المؤهل لأن يؤدي دور المرشد الإسلامي للحراك السوري. ولكن حالة الكره التي يكنّها له كبار شيوخ السلفية في المنطقة، ومنهم القرضاوي، إضافة إلى تقدمه في العمر، جعلاه يتوارى عن المشهد. وسرور، سوري إخواني النشأة، انجذب، لاحقاً، نحو السلفية المتشددة، ومسقط رأسه في درعا التي اشتعلت فيها الأحداث. وهو عالم متمكّن، وخصوصاًَ في مجال فقه الجهاد. وكان قد هاجر مع شيوخ «إخوان» سوريا إلى السعودية إثر أحداث حماة في ثمانينيات القرن الماضي، حيث لاقى احتضاناً من الأسرة الحاكمة ومن شيوخ الحركة الوهابية، شأنه شأن قادة إخوان سوريا ومصر الذين هربوا من نظامي حكميهما في الفترة ذاتها تقريباً. واستعان وهابيّو السعودية بهم من أجل تمكين قطاع التعليم الديني في المملكة، وصار لهم صوت فقهي مسموع. وأهمية سرور المضاعفة تحقّقت لأنّه صاحب الفضل في صياغة القاعدة الشرعية التي وفّرت لتنظيم القاعدة المستند الفقهي لظهوره وولادته. قال بن سرور لشيوخ الوهابيّة في المملكة: «أنتم حركة سلفية دعوية، والإخوان حركة إسلامية جهادية، ولا ينقصكم لتصبحوا حركة سلفية جهادية سوى أن تدمجوا بين أفكار محمد بن عبد الوهاب ونظريات سيد قطب عن الجهاد (الفريضة الغائبة)». وهكذا كان، وكانت ولادة القاعدة.
وتدلّل هذه الواقعة على أنّ «القاعدة»، فكرياً وتنظيمياً، لم يكن يتألف فقط من الدائرتين المصرية (أيمن الظواهري) والجزيرة العربية (أسامة بن لادن)؛ بل فيه، أيضاً، كان هناك الدائرة «الشامية» التي صاغت نظرية ولادته. واعتبرت أهمية الظواهري تنظيمية أكثر مما هي فقهية، إذ إنّ سرور جمع الميزتين بكفاءة عالية، وبنى بين الدائرة الشامية داخل القاعدة وبيئة واسعة من السلفية المتشددة في العالم علاقات وثيقة. وعليه، لا يعود مستغرباً الآن لماذا استطاع الحراك السلفي في سوريا جذب كل هذا الكم من أطياف جهاديي القاعدة للقتال معه في ساحتهم.
ومع تعاظم دور الجماعات الإسلامية داخل الحراك السوري، اهتم شيوخ السلفية بمنع دخول سرور إليه، لعلمهم باقتداره الفكري والتنظيمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه حينما هاجر سلفيون إلى طرابلس في شمال لبنان من دول مختلفة، وذلك عشية أحداث مخيّم نهر البارد، بقصد إقامة إمارة إسلامية هناك، أرسل سرور إلى عاصمة الشمال ممثلاً له، وهو شخص كويتي الجنسية. ورغم أنّ مجموعته كانت صغيرة العدد، سرعان ما أظهرت فارقاً نوعياً في حراكها، بلغ ذروته حينما اقترحت إنشاء مجلس شرعي يوحّد بندقية السلفيين. ولكن سرعان ما تنبّه شيوخ الأطياف السلفية الأخرى العاملة في الشمال لـ«الفطنة السرورية»، فاجتمعوا ضده، وطردوا ممثله.
ومرة جديدة، أقصى شيوخ السلفية، لمناسبة الحراك السوري، سرور. ولضمان عدم نفاذه إليه لكونه ابن درعا وحامل الإرث التاريخي للصراع بين الإخوان المسلمين والنظام، اختاروا الشيخ عدنان العرعور ليتصدّر هذا المشهد، بوصفه ابن ريف دمشق و«السلفي المهاجر». ورغم أن اختيارهم له تمّ على قاعدة أنّه لا ينافسهم، استطاع تحصيل نتائج لم تكن متوقعة، وأبرزها أنّه، خلال بداية الأحداث، كان له الفضل في سنّ شعارات إسلامية عقائدية للحراك كان لها مساهمة في أسلمته، من قبيل «التكبير» خلال التظاهرات، وهتافات من نوع «محمد قائدنا إلى الأبد». وأيضاً على مستوى الممارسات، عمّم مقولة تفيد أنّ صلاة الفجر هي جزء من الحراك الجهادي، إذ خاطب المعارضين قائلاً: «كيف يطلب أحدكم من الله أن ينصره، ولا يصلي الفجر وهو وقت مبارك». حالياً تراجع موقع العرعور، نظراً إلى مغالاته العلنية في تطييفه الحراك وتركيزه على تكفير العلويين.


تجربة بلحاج

ويقابل المقولة الشائعة عن أنّ «جبهة النصرة» هي أم الكتائب الإسلامية الجهادية في سوريا، تأكيد مناقض، أنّ «كتائب أحرار الشام» هي مركز الثقل العسكري والفكري «الصامت». ويقول أنصار هذا الرأي إنّ ما حدث خلال الصيف الماضي من تجميع لكلّ كتائب الجهاد السورية تحت عنوان «جبهة ثوار سوريا»، لم يكن في الحقيقة سوى عملية توحيد لكتائب أحرار الشام مع شقيقاتها من الكتائب الإسلامية الأخرى. ويرى هذا الرأي أنّ كبار نشطاء كتائب أحرار الشام هم القادة الفعليون للجبهة والمرشد الفكري الأساسي للجبهة الجهادية الوليدة.
ويقدمون، لتأكيد ذلك، فيضاً من المعلومات المحصور انتشارها داخل قلعة الحراك الجهادي في سوريا المغلقة، لكن أبرزها قصة صلة النظام الداخلي، الذي أقرّته «جبهة ثوار سوريا» أخيراً. ويلفتون، في هذا المجال، إلى أنّ «كتائب أحرار الشام» تعتبر تجربة عبد الحكيم بلحاج، قائد الثورة الليبية، هي النموذج الذي تسترشد به، بخصوص مجمل دورها وهدفها النهائي في سوريا. ومجرد مقارنة رؤيتها الآنفة هذه، ومضمون «النظام الداخلي» لجبهة ثوار سوريا، والمكوّن من ٤٠ صفحة، تظهر أنها استنساخ كامل لرؤية كتائب أحرار الشام الداعية إلى محاكاة تجربة بلحاج، وذلك من الزوايا الآتية:
أولاً _ إعلان الجهاد (أي ضرورة أن يكون القتال تحت راية الإسلام).
ثانياً _ تطبيق شرع الله أثناء العملية الجهادية. وفي هذا السياق يعطي نموذج بلحاج بعدين متلازمين لهدف قيام الجهاديين بإنشاء الهيئات الشرعية في مختلف المناطق التي يوجدون فيها أثناء المهمة القتالية، وهما تطبيق حدود الشرع، ليس فقط على الأعداء بل على المجاهدين أيضاً خلال الحراك الجهادي. وتجدر الاشارة إلى أنّه يوجد لجبهة ثوار سوريا، (جرى أخيراً تداول تسمية أخرى لها: «جبهة تحرير سوريا»)، مجلس شرعي أعلى، تتفرع عنه في كل منطقة في سوريا هيئة شرعية تضم قاضياً غالباً ما يكون مجتهداً، يمارس سلطة تطبيق شرع الله على الجهاديين وعلى أعدائهم في آن واحد.
ثالثاً _ الهدف إيصال سوريا إلى حكومة ليست بالضرورة دينية، لكنها تلتزم بأمرين، أوّلهما ألا تكون عسكرية، وثانيهما أن تطبّق شرع الله، وذلك تحت مبرّر الانصياع «للأغلبية» (المقصود أن أغلبية سكان سوريا مسلمين سنّة).
رابعاً _ تقوم الكتائب العسكرية الاسلامية بحلّ نفسها، وتسليم سلاحها للمؤسسة العسكرية الجديدة بعد سقوط النظام، وينخرط من هو مؤهّل من عناصرها في مؤسسة جيش سوريا الجديدة.



«القائد المجهول»

يعود الفضل في إطلاق الحراك العسكري الاسلامي في سوريا إلى شخص حرص داخل البيئة السلفية على إبقاء اسمه مكتوماً. وتفاصيل قصته تفيد أنّه حينما ظهرت للمرة الأولى الكتائب العسكرية الاسلامية في مناطق شرق سوريا، كانت حالات متفرقة ومشرذمة. ولكن عملية النهوض بها، وتوحيدها، قادها، بدايات العام الماضي (2012)، شخص مدني وحّد الحراك العسكري الإسلامي بين منطقتي الشمال والشرق، أي المنطقة الممتدة من الدوير إلى حلب حتى إدلب، فتخوم اللاذقية. وأدّت مبادرته إلى توحيد غالبية الكتائب الاسلامية التي كانت تعمل في هذه المناطق، ضمن المجلس العسكري القديم، وسمّاهم «كتائب أحرار الشام».
وبلغ مجموعها حينها 80 كتيبة. وكان جميع عناصرها من المدنيين ذوي الانتماء السلفي أو القريب منه. والجهتان الأساسيتان اللتان قدمتا الدعم لها، هما السعودية وليبيا، في حين أن المجلس العسكري كان يتلقّى الدعم من قطر، وتركيا، وأوروبا.