ما ينتظره الرئيس بشار الأسد من ردود فعل على خطابه ليست تلك التي صدرت عبر وسائل الإعلام أو من خلال البيانات العلنية لوزراء خارجية العالم. فالردود السلبية التي صدرت من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وتركيا متوقعة. وبالأساس، لا ينتظر أحد في دمشق أن يصفق زعماء دول «أصدقاء الشعب السوري»، لخطاب الأسد، وكأنهم يعلنون أنّ الرجل، الذي اتهمناه طوال العامين الماضيين بأنه سبب المشكلة، ننصّبه الآن بطل الحلّ. وأبعد من ذلك، فإن «خطاب الحلّ»، لم يكن اختيار توقيت إطلاقه من قبل الأسد وحلفائه الإقليميين والدوليين، عبثاً، بل لكونه أصبح حاجة للحلّ الدولي في سوريا، مثلما هو حاجة سورية داخلية. ومعظم حيثية الفكرة ينطلق من تقدير دولي مستجدّ يشترك فيه الأميركيون، والصينيون، والروس، ودول أوروبية يفيد بأنّه في شهر آذار المقبل يحين موعد استحقاق دولي هامّ، سيؤدي فشله في إنتاج رؤية دولية للحلّ في سوريا إلى ثمن مكلف على منطقة الشرق الأوسط وعلى المصالح الدولية. والمقصود به لقاء رئيسي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا باراك أوباما وفلاديمير بوتين.

خريطة دولية

لقد سبقت خريطة الحل، التي أعلنها الأسد في خطابه، خريطة اتصالات أميركية روسية من جهة (دبلن ٤ الشهر الماضي)، وإيرانية مع الأخضر الإبراهيمي من جهة ثانية، ومع تركيا من جهة ثالثة. وروسيا والصين، وأيضاً أميركا، لم يكونوا بعيدين عن أجواء هذين المحورين الثاني والثالث من الاتصالات.
مصدر دبلوماسي كشف لـ«الأخبار»، عما يسميه وقائع الخلفية الدولية لخطاب الأسد، وترتيب موقعه داخل خريطتها التي نشطت فعالياتها في الظل، خلال الشهرين الماضيين. ويقول المصدر إنّ أول إرهاصات الاستدارة الدولية باتجاه البحث عن رؤية دولية جديدة، تصلح للتعاطي مع الأزمة السورية، أشار إليها طرح طهران على الأخضر الإبراهيمي مسودة مبادرتها للحلّ. وأبرز ما فيها أنّها تتضمن انتخابات نيابية حرّة وأخرى رئاسية في عام ٢٠١٤، يترشح فيها الأسد مع آخرين. الإبراهيمي، الذي على ما يبدو تأخر في جسّ النبض الدولي الجديد، سأل «هل يمكن عقد انتخابات في هذه الظروف؟». ردّ الإيرانيون «نحن نطرح موضوع قبول مبادرة للحلّ، وليس موضوع نقاش هل يمكن ينفذ هذا البند منها أو لا».
في الكواليس المعنية بالأزمة السورية، كان السؤال عن معنى توقيت خروج إيران، الآن، بمبادرتها. والجواب الوحيد عليه، هو أنّ طهران تطرح مبادرة السقف العالي لصالح النظام، مقابل ما تطرحه واشنطن من أنّ الحلّ يحصل بخروج الأسد من العملية الانتقالية السياسية. وبمجرّد وضع السقوف العالية بمواجهة بعضها البعض، فإن ذلك يخدم فكرة جعل المبادرة الروسية (ورقة جنيف) هي الحلّ الوسط. وخطاب الأسد جاء ليساعد على إنهاء النقطة الخلافية في ورقة الحلّ الوسط الروسية، المتعلقة بموقعهم في العملية الانتقالية، عن طريق إحالة الفصل فيها إلى صناديق الاقتراع، لا إلى قرار خارجي مسبق.

بين لافروف وكلينتون

وبرأي المصدر، عينه، فإنّ الأزمة السورية، الآن، في مرحلة ترتيب الأرائك حول طاولة تسويتها. فمقعد النظام بات له برنامج حلّ، بانتظار الحسم العلني للاعتراف الدولي باسم الشخص الذي سيجلس عليه. ومقعد المعارضة باتت له مواصفات، هو ناقص التكفيريين، أما معرفة أسماء الأحزاب والأشخاص التي ستجلس عليه، فلا تزال أيضاً تحتاج إلى بلورة تنتجها سيرورات العملية التفاوضية المعقدة.
أما مسيرة حرب الإرادات بين روسيا وأميركا، فلقد أنجزت مستوى معيّناً من ترتيب موقعها أو منزلتها، داخل خريطة محاولة الحلّ والحاجة الدولية إليه. وهذا الأمر تمّ إنتاجه في اجتماع دبلن بين لافروف وكلينتون بحضور الإبراهيمي. مصدر روسي كشف لـ«الأخبار»، أنه خلال الاجتماع، توافق الطرفان على ورقة تطمينات متبادلة: لافروف طمأن كلينتون بأنّ ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية أصبحت في مكان آمن، وأنّ الجيش السوري نقلها من الأمكنة المشتبه في إمكان سقوطها بأيدي المعارضة. وأكد أنّ هذا السلاح لن يستعمل ولن ينقل إلى أيّ جهة، ولن يسقط بيد أي طرف غير مسؤول. وكشف لافروف أنّ السفارة الروسية في دمشق تنسّق يومياً مع الجهات السورية المختصة بشأن إبقاء الترسانة الكيميائية، تحت رقابة يومية مشتركة من الطرفين. وكانت مصادر سورية مطلعة قد كشفت أنّ واشنطن، عبر حواراتها مع الروس قبل اجتماع دبلن، قد أثارت موضوع السلاح الكيميائي من زاويتين، الأولى خشيتها من انتقاله إلى أيدي حزب الله وبدرجة أكبر سقوطه بأيدي المجموعات المسلحة التابعة لمناخ القاعدة. والثانية، وتمّ طرحها منذ نحو خمسة أشهر، تحدثت عن معلومات لدى «الأطلسي» وتركيا، تفيد بأنّ النظام زوّد حزب العمال الكردستاني المسيطر على مناطق سورية بشيء منها.
بالمقابل، فإنّ كلينتون قدمت للافروف تطميناً أساسياً، يفيد بأنّ الحلّ في سوريا سياسي وليس عسكرياً. والواقع أن رسم سقوف التطمينات بين موسكو وواشنطن أفسح في المجال لتنشيط مناخ البحث عن ترتيب أوراق الحلّ السوري، وإنتاج أطيافه المقبولة خارجياً ومن ثم داخلياً. ويختم المصدر عينه بالقول: «إنّ اجتماع الدوحة الذي شهد أول تدخّل أميركي مباشر في أعمال المعارضة، أدّى إلى إعادة هيكلتها، فيما خطاب الأسد (الذي جاء نتيجة تطورات على صلة بحصيلة لقاءات فيصل المقداد بنظيره الروسي قبل أسبوعين، ولقاء دبلن، ووظيفة المبادرة الإيرانية داخل مجهود إنتاج الحلّ الوسط)، أدى إلى إعادة هيكلة موقع النظام في الحلّ وفق رؤية «ورقة جنيف معدّلة»، أيّ «جنيف ٢».
ماذا بعد الخطاب؟
هناك ثلاث نتائج متوقعة له: الأولى تسعير حملة إظهاره أنّه غير كاف، وخاصة لجهة أنّه يتضمن عدم رحيل الأسد. وهذا الجانب من المهمة سوف تقوم به قوى «الائتلاف السوري» وداعميها الإقليميين والدوليين. وهو في خلفياته يفسّر استمرار عملية عضّ الأصابع بين موسكو وواشنطن بخصوص تفسير بند ورقة جنيف الخاص بالعملية الانتقالية ومشاركة الأسد فيها. ولكن ما بات واضحاً هو أنّ واشنطن باتت لديها أولويات في الأزمة السورية، وهي عدم ترك الوضع حتى يفرز «المجاهدين السوريين» على وزن المجاهدين الأفغان. إلا أنّه مع ذلك ستترك أميركا لمناورة الضغط من أجل إقصاء الأسد من العملية السياسية فرصة أخيرة.
الثانية، محاولة المجموعات الإسلامية المتشددة، التي تسيطر على ٧٠ في المئة من أرض الحراك العسكري، تصعيد عملياتها للانقلاب على إرهاصات مناخ الحلّ الدولي الذي تعرف أنها ضحيته الأولى. وهنا يتوقع إقدامها على ارتكاب مجازر، وأيضاً، محاولة قلب الطاولة عبر تنفيذ اغتيالات نوعية، على رأس طموحاتها اغتيال الرئيس الأسد شخصياً، ما يجعل كلّ أجندة وقف الفوضى التي تستفيد منها هذه المجموعات، لتقوية حضورها، تتناثر في مهب الريح.
النتيجة الثالثة المتوقعة هي أن يشهد بالتحديد بند «الميثاق الوطني» في مبادرة الأسد، حالة شرسة من الصراع عليه، لأسباب عديدة، أبرزها أنّ القوى الإسلامية الموجودة داخل الائتلاف المعارض، وبخاصة الإخوان المسلمين، ترى أنّ الأسد تقصّد إدراج هذا البند للتذكير بدور الإخوان المسلمين في مصر التعطيلي لقيام الدولة المدنية، كإشارة إلى دور مماثل لإخوان سوريا في حال وصولهم الى السلطة. والواقع أنّ جعل الميثاق الوطني، الذي يحدد ثوابت الهوية والدور لسوريا الدولة والنظام، يسبق خطوة صياغة الدستور، هدفه الإيحاء بأمر أساسي، وهو أنّ سوريا الجديدة لن تتخلى عن ثوابتها في الدستور الجديد، وخاصة لجهة أنّها دولة غير دينية، وتحترم تنوعها وغير مستعدة للتخلي عن موقعها العربي المدافع عن قضاياهم المركزية.