هي الأزمة نفسها في العراق، تستعيد حيويتها عند كل استحقاق، تفجرت أخيراً تحت عنوان «مظلوميّة أهل السنّة»، بعد جولة من المواجهات، لامست حدود المعارك العسكرية، خيضت تحت شعار «الحقوق الكردية». وكما هو الحال دائماً عند كل صدام، تختلف مقاربة الأطراف المعنية بالأزمة بحسب موقع كل منها. يغلب الطابع المحلي عليها، كلما اقتربت من الميدان، ويطغى عليها الجانبان الإقليمي والدولي كلما ارتفعت في هرم القيادة، لتصبح جزءاً من معركة، ميادينها تمتد من سوريا مروراً بتركيا والأردن والسعودية وقطر ولا تنتهي بإيران والولايات المتحدة.
الوجه الداخلي من المعضلة الحالية وقائعه معروفة ومثبتة، في معظمها على الأقل. مكون أساسي من المكونات المذهبية ــــ العرقية الثلاثة في العراق انتفض غضباً على عملية أمنية ـــ قضائية أدت إلى اعتقال مجموعة من عناصر حماية وزير المال العراقي رافع العيساوي، وعُدّت استهدافاً لأهل السنّة. افترش الآلاف من سكان المناطق الغربية الساحات احتجاجاً، رافعين لائحة مطالب تبدأ بإلغاء قانون اجتثاث حزب البعث، ولا تنتهي بعفو عام وتحرير المعتقلات بتهم الإرهاب، والغاء المادة الرابعة من قانون الإرهاب، وإيقاف تطبيق قانون الإعدام، سرعان ما تحولت إلى حراك سياسي يريد استعادة محاولات سابقة رمت إلى استدعاء رئيس الحكومة نوري المالكي إلى جلسة برلمانية لاستجوابه تمهيداً لإقصائه عن الحكم، فرد الأخير برفع شعار الانتخابات المبكرة الذي أيدته مختلف الأطراف، وإن اختلفت على آليات تنفيذه. الأطراف السياسية المنتفضة أعادت التأكيد على كامل خطابها، الذي يوجه إلى المالكي نوعين من التهم: الأول شخصي، يختصر في أنه «ديكتاتور جديد» لا يقبل الشراكة ويريد من باقي الأفرقاء أن يكونوا «أوادم» بمعنى «مطواعين، أشبه بموظفين ينفذون الأوامر»، على ما أفادت مصادر نيابية في القائمة «العراقية». والثاني سياسي، يختصر بوصف النظام القائم في بغداد بأنه «شيعي محض لا مكان للآخرين فيه». ويستعيد هؤلاء ما يرونه «ظلماً لحق بـ(نائب الرئيس الملاحق بتهم ارهابية) طارق الهاشمي». ويرون أن هذا «مصير كل من لا يرضى عنه المالكي»، قبل أن يستفيضوا في الحديث عن فقدان الخدمات والاهتمام بمناطقهم، وعن أن أبناءهم محرومون الوظائف الحكومية على جميع أنواعها بسبب انتمائهم السابق إلى حزب البعث، وأن نساءهم «تُنتهك أعراضهن في سجون الدولة». وتتساءل المصادر نفسها عن توقيت عملية اعتقال عناصر حماية العيساوي، موضحة أن الأخير أكد، في خلال اجتماع مع قادة القائمة العراقية، أنه «كان مشاركاً، مثل آخرين كثر، في عمليات العنف خلال عامي 2007 و2008، فما سبب هذه الإجراءات اليوم».


أمن برداء سياسي

مصادر قضائية عراقية معنية بهذا الملف تقول إن «العملية كلها بدأت بدعوى رفعتها عائلة قتل ابنها في عملية تفجيرية قادت إلى عناصر حماية العيساوي، الذين أدلوا باعترافات تقود إلى العيساوي»، مشيرة إلى أنه «نظراً إلى حساسية الوضع، وما كنا نتوقعه من ردود فعل مذهبية، علينا التأكيد أن العائلة صاحبة الدعوى سنيّة، وأنه جرى تشكيل لجنة من تسعة قضاة معظمهم من السنّة للنظر في الملف، بل أكثر من ذلك، ما أن انتهت التحقيقات مع المعتقلين حتى استدعينا بعضاً من كبار مشايخ المنطقة الغربية، بينهم أحمد ابو ريشة، جلسوا على انفراد مع المعتقلين، الذين أكدوا لهم أنهم لم يتعرضوا لأي تعذيب. حتى إننا أصررنا على أن يخلعوا ثيابهم أمامهم للتأكد من أن أي أذى لم يمسّهم».
أوساط المالكي تتهم العيساوي والهاشمي بـ «تهييج الشارع السني تحت عنوان المظلومية السنيّة في محاولة منهما لتجنب صدور مذكرات اعتقال» بحق وزير المال، كما حصل مع نائب الرئيس. وتضيف إن «اللافت في أن التحرك سياسي بامتياز فيما المطالب أمنية، هي ليست أصلاً من صلاحية رئيس الحكومة، بل من اختصاص البرلمان ويُستجاب لها عبر تفاهم بين الكتل النيابية ـــ فلماذا يحمّلون رئيس الحكومة وزرها؟».
مصادر قيادية في «التحالف الوطني العراقي»، معروفة بقربها من الطرفين، ترى أن دخول حزب البعث المحظور دستورياً، وعلى وجه الخصوص نائب الرئيس الراحل صدام حسين، عزة ابراهيم الدوري، على الخط وتبنيه للمتظاهرين أضر كثيراً بهم وبحراكهم. وتقول إن «المالكي يمكنه الآن اعتبار الحراك في المناظق الغربية انتفاضة على الدستور والحكم، والذهاب بالتسجيلات والصور التي تدل على تورط البعث في ما يجري إلى البرلمان، ليعلن أن كل من يتفاعل مع هذا الحزب ومع دعواته خارجٌ على القانون وتجب ملاحقته». وتكشف المصادر نفسها أن القيادة العسكرية في البلاد قامت بداية هذا الاسبوع باعادة انتشار لألويتها في المناطق الغربية، كما أعادت تموضع الأسلحة الثقيلة فيها كخطوة احترازية في مواجهة ما وصفته بأنه «خيوط مؤامرة انقلابية لحزب البعث تحت غطاء المحتجين»، من دون أن تستبعد أن تنتهي محاولات سحب الثقة من المالكي إلى سحب الثقة من النجيفي نفسه.


عودة الصدر

أدى طبعاً توقيت اندلاع الأزمة، قبل أشهر من انتخابات المحافظات المقررة في 20 نيسان المقبل، دوراً بارزاً في تجييش الأطراف السياسية كلها، بدءاً من السيد مقتدى الصدر، الذي ظهر فجأة وفي بغداد، بعد أشهر من الاختفاء الطوعي الذي مارسه بعد «أزمة إربيل»، وفي اضطرار بعض قادة العراقية إلى سلوك منحى أكثر تطرفاً لملاقاة الشارع، وصولاً إلى القيادة الكردية، التي لا شك في أنها وجدت في ما يحصل فرصة لتصفية الحساب مع المالكي، وفي الوقت نفسه لإلهائه عنها وعن أوضاع الداخل المتأزمة داخل كردستان نفسها.
سعى الصدر منذ اليوم الأول، وكعادته، إلى استغلال ما يجري لتعزيز وضعه السياسي والشعبي المتدهور. لعب على خطين متوازيين، على ما تفيد مصادر متقاطعة: الأول، انفتاح على الكتلة العراقية والعمل على اقناع رئيس البرلمان اسامة النجيفي بالدعوة إلى جلسة نيابية تنتهي إلى طرح الثقة بالمالكي، متعهداً تأمين النصاب بإقناع المجلس الأعلى بحضورها. أما الثاني، فقد بعث برسالة إلى المالكي يطلب منه فيها أن يرسل إليه وفداً لمناقشة الوضع. دعوة قبلها المالكي ابتداءً، لكن حضور كتلة الأحرار جلسة البرلمان المشار إليها الثلثاء جعل رئيس الحكومة يتردد في المضي قدماً في الاستجابة. كانت لافتة جداً تلك الزيارة التي قام بها الصدر إلى زعيم المجلس الأعلى السيد عمّار الحكيم يوم الجمعة الماضي، آخذاً بالاعتبار الخلافات المتجذرة بين الطرفين. في هذا اللقاء، طلب الصدر من مضيفه أن تحضر كتلة المواطن التي يتزعمها الحكيم الجلسة البرلمانية، فكان رفضاً مهذباً بلغة دبلوماسية معروف بها زعيم المجلس، كما فتح الصدر موضوع التحالف بين التيار الصدري والمجلس في الانتخابات المقبلة، فكان جواب الحكيم «إن شاء الله».
دقت ساعة الاختبار، الثلاثاء. مؤيدو انعقاد الجلسة في الداخل، وبينهم كتلة الأحرار بكامل أعضائها. أعضاء كتلة المواطن في مقهى البرلمان، والاتصالات والضغوط من كل حدب وصوب لإقناعهم بعبور بضعة أمتار إلى داخل القاعة. النتيجة: عدم انعقاد الجلسة لعدم اكتمال النصاب، بعدما قاطعها كل نواب التحالف العراقي، ما عدا النواب الصدريين، ومعهم «العراقية البيضاء»، المنشقة عن القائمة العراقية، وبعض المستقلين من كل الفئات.
غير أن حالة الاحتقان داخل الجلسة، حيث حصل تصادم، وفي الشارع حيث التظاهرات، أجبرت النجيفي، الذي بدا خائفاً من الخروج إلى جماهيره خالي الوفاض، على عقد جلسة تشاورية انتهت إلى لا شيء.


صيغة الحل؟

تجمع الأطراف العراقية على أن المشكلة السياسية في العراق بالغة التعقيد، سواء على مستوى علاقة المركز بالأقاليم والمحافظات، أو على مستوى علاقة الكتل البرلمانية بعضها بالبعض الآخر. وبناءً عليه، يبدو أن الصيغة الأقرب إلى التوافق عليها للوصول إلى حل ناجع، إحالة مطالب المحتجين على البرلمان، صاحب الصلاحية لبتّها، لكن بعد العودة إلى صناديق الاقتراع في انتخابات مبكرة تجري بالتزامن مع انتخابات المحافظات في نيسان، تنبثق عنها حكومة أغلبية لا حكومة توافق وطني على غرار الحكومة الحالية التي فشلت في الاستجابة لتطلعات الشارع.
صيغة كهذه لا شك في أنها ترضي «القائمة العراقية» التي كانت أول المطالبين بالعودة إلى صناديق الاقتراع، وإن كانت تشترط تأليف حكومة حيادية للإشراف على عملية الاقتراع. وهي أيضاً ترضي قائمة دولة القانون، التي يتزعمها المالكي والتي ترى أنها قادرة هذه المرة على حصد عدد أكبر من المقاعد من المرة السابقة، مستفيدة من ارتفاع شعبية المالكي، سواء عند الشيعة بسبب مواقفه من قضايا حزب البعث والإرهاب، وحتى لدى عشائر أهل السنّة في كركوك والموصل بسبب مواقفه ضد المطامع الكردية في مناطقهم. صحيح أن تقديرات هذه القائمة أن انتخابات في مثل هذا الوضع يمكن أن تؤدي إلى فوز المتطرفين في الطرف المقابل، لكنها مطمئنة إلى «حكمة واعتدال الكثير من علماء أهل السنّة ورموزهم، الذين تربطنا بهم علاقات طيبة».
الوضع نفسه ينطبق على المجلس الأعلى، الذي يتحين منذ الانتخابات السابقة فرصة خوض غمار مواجهة اقتراعية جديدة يتجنب فيها الخطايا التقنية التي ارتكبها فيها، وأدت إلى تقزيم كتلته البرلمانية إلى نحو 20 نائباً. وحده الصدر من بين زعماء التحالف الوطني الذي لا يرى مصلحة في انتخابات كهذه، لأسباب عديدة، أولها انخفاض شعبيته بسبب ممارساته السياسية خلال الأشهر الماضية، وحال التشرذم والتصدّع داخل التيار الصدري نفسه. ربما يشاركه في قلقه هذا رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، الذي يلحظ منذ أشهر محاولات تقارب بين الاتحاد الوطني بزعامة الرئيس جلال طالباني وقائمة التغيير بزعامة نيشيروان مصطفى، لا بد أنه يرى أنها تهدف إلى تحجيمه.
ويبقى السؤال: أي دور يمكن أن يؤديه إياد علاوي في كل هذه المعمعة، وخاصة أنه كان قد قرر قبل أسابيع تكريس انقسام «العراقية» إلى أجزاء ثلاثة، بخوض انتخابات المحافظات بكتلة منفصلة عن تلك التي تجمع النجيفي والعيساوي والهاشمي ومعهم الحزب الإسلامي، وأخرى يقودها صالح المطلك ومعه جمال الكربولي ومحافظ الانبار الحالي قاسم محمد الفهداوي، والجبهة التركمانية.



النجيفي: المشاكل المتراكمة أدت إلى التظاهر

رأى رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي (الصورة)، أمس، أن المشاكل المتراكمة وغياب الحلول الفعلية في العراق دفعا العراقيين في مناطق عدة إلى التظاهر. وشدد النجيفي في بيان صادر عن مكتبه عقب لقائه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق مارتن كوبلر، أن «المشاكل المتراكمة وغياب الحلول الفعلية وتردي الوضع الخدمي والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان هي ما دفعت مناطق عدة من العراق إلى التظاهر». وأعرب عن أمله بأن «تؤدي الأمم المتحدة دوراً مهماً وفعالاً في حلحلة هذه الأزمة».
من جانبه، أبدى كوبلر «قلق الأمم المتحدة من استمرار الأزمة في العراق»، داعياً الحكومة إلى «الابتعاد عن استخدام العنف ضد المتظاهرين، مع وجوب النظر في مطالبهم ومناقشتها على نحو جدي ومثمر»، والأطراف السياسية إلى « تبني لغة الحوار من اجل تفادي الأزمات». ورأى كوبلر أن «من حق الشعب التظاهر، ومطالبة الحكومة بتقديم الخدمات والاهتمام بحقوق الإنسان على أن يكون ذلك ضمن الإطار السلمي والايجابي».
(الأخبار)