لبنان، لا يرحب بكم
وعلى الحدود الجنوبية لسوريا، نكبة جديدة لا تكاد تقلّ قسوة عن نكبة 1948. هنا البرد قارس، المطر يهطل من السماء ويتدفق من باطن الأرض. قلّة الطعام وندرة وسائل التدفئة تتسابقان مع سوء حالة الخيمة المُضيفة. «أيهما أقسى يا ترى: الجوع أم العراء؟». قد تكون عنصرية هذا البلد، بلد السياحة والشوبينغ، أقسى من كل ذلك. يجدر بلبنان أن يغيّر لافتة الترحيب الحدودية إلى «لبنان لا يرحب بكم»!
تستعطفك محطة تلفزيونية، تحاول تغيير الرأي العام اللبناني، تجاه قضية النازحين من سوريا: سوريين وفلسطينيين. رفيق في هذه المحطة يختتم تقريره البارحة بأروع ما قد يُقال «أيظن المعنيون أن هؤلاء يرغبون باللجوء والعيش بظروفٍ مثل هذه؟»، يقولها وهو يدخل خيم اللاجئين وبيوت الزينكو، يتحدث إلى القادمين الجدد، يشكون إليه البرد والجوع وقلة الغاز والمازوت. هم يخافون من الموت. فعلاً، من الغباء أن يظن أحد ما أن هؤلاء هربوا من الموت بالرصاص والقنابل وأتوا إلى لبنان ليموتوا من البرد والجوع! محطة تلفزيونية أُخرى، لا تنقل أخبار هؤلاء أصلاً، وكأنهم غير موجودين والبلد بألف خير. يا ماشالله! وأُخرى تبخّ العنصرية كالسم. تنقل إليك لحظة بلحظة كيف يتزايد أعداد هؤلاء على موقعها الإلكتروني، تخيفك بأنهم إن أتوا فقد لا يرحلون أبداً، والبلد أصلاً يضيق بك، والمعيشة الغالية والإيجارات «متل النار»، ألم تخف بعد؟ فزاعة التوطين تعود مجدداً إلى الواجهة، توطين فلسطينيين، سوريين، وأنت تهرب، تسافر، تهاجر، البلد لم يعد لك! وكأننا لم نملّ من هذا الحديث في الثلاثين سنة التي مضت، وكأن على هذه الفزاعة أن تعوق طريقنا في الوصول إلى أي حل.
عزيزي اللبناني، من يريد أن يوطن في بلد كهذا أصلاً؟ 4 قتلى في موجة برد، انهيارات جسور، فيضانات أنهر، أتريد بعد؟ عناقيد الغضب، اغتيال الحريري، حرب تموز، 8 آذار، 14 آذار، اغتيالات «عن أبو جنب»، الخميس الأسود، 7 أيار، القمصان السود، نهر البارد، مارون الراس، مخطوفون، سلفيون مسلحون، إضراب جامعات، إضراب مدارس، انقطاع المياه في الصيف، فيضان المياه في الشتاء، أزمة كهرباء صيفاً وشتاءً، أزمة إيجارات، ربطة الخبز 900 غرام، تنكة البنزين 37000 ليرة، إشكالات، قتلى، جرحى، طوائف، أحزاب، تعطيل حكومة، تشكيل حكومة، انفجار الأشرفية، اغتيال وسام الحسن، حاجز الناعمة، حواجز على الهوية، سُنّة، شيعة، دروز، مسيحيين... خلص. بيكفي!
بيروت ــ إيمان بشير

لن نموت

الموت لعبة تجيدها الحياة وتدرك مسالكها والرصاصات المتسلقة لهواء يعبر نحو جسد غضّ جميل يسبح في الأرض بحثاً عن لقمة عيش كريمة. الموت، ركض الحياة نحو بداية جديدة تنتهي عند السؤال عن معنى البقاء في قضية لا توجع أكثر من صاحبها الذي يظن أنه لا يموت.
اللعبة التي تجربها الحياة منذ الأزل وستكمل حياكتها إلى الأبد، يتقنها الفلسطيني بطريقة، اختلفت الحياة على تفسيرها: ظنّ الطفل الذي اتخذ من الدبابة لعبة، ومن مدفعها ميلاناً طبيعياً للزحلقة، وفارس عودة الذي حمل حجراً بوجه دبابة، ظنّ أيضاً أن الحجر قوة ستصهر الحديد الصلب وتبقيه حياً.
مثل هؤلاء الأطفال تتناوب الحياة على العبث بحياتهم.
لسنا بعيدين عن قنبلة تنفجر في مساء متعب من الجوع والعطش، ولسنا قريبين من موت يتفرع في الهواء اللزج والحامل رائحة الموت من كل التاريخ الفلسطيني. الموت الذي تسابقنا عليه سابقاً وصار جزءاً من شخصيتنا «الوطنية» ومكوناً لرمزية الحياة خاصتنا.
كذلك لسنا بعيدين عن ملائكيتنا وبشريتنا. ولكننا تمرسنا الهجوم والدفاع في آن واحد، وتمرسنا الإيمان بأن لا موت سيأتي إلا بإذننا. وكأننا آلهة تقرر متى وأين تموت، ومتى وأين تحيا. وتعلن مشيئتها بأن الموت سبيل لحياة الأرض التي لم تبتعد أكثر من فجر لم نتنفسه بعد. ففي المخيم ثمة فلسطين ضائعة، وفي المخيم ثمة ثورة قائمة لن تنهك، وثمة وجود لا يتعب من وجوده بهوية مكونة من هويات.
لسنا خارج الفرح، ولكننا نرفض المفروض علينا. فما زلنا الغضب الذي يتمشى في أزقة التاريخ. لا لأننا نحن الماضون نحو ما نريد بدمنا، ولا لأن تاريخنا لم يشهد استقلالاً واضحاً كالشمس، ولا لأن الحرية من جباهنا تسطع، لكن فقط لأننا شعب يحب أن يحيا دون موت تجيد لعبته الحياة. ولنا أن نختار موتاً نجيد فن اللعب فيه كما تستريح الأرض التي نريد.
لذا، فمخيم اليرموك رغم ما أصابه لم يقف على الحياد أمام إرادة قتله. فقام ولم يمت.
اليرموك ــ أيهم السهلي