تونس | منذ ساعات الصباح الأولى، غصّ شارع الحبيب بورقيبة القلب النابض للعاصمة التونسية بالتونسيين من مختلف الأجيال والجهات والتوجهات السياسية. جمع الشارع، الذي احتضن تظاهرة تاريخية قبل عامين في اليوم نفسه، من جديد كل الأطياف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مستذكرةً الهتافات التي نضحت بها حناجرهم قبل عامين: «خبز وماء... بن علي لا»، «بن علي ديقاج» و«الشعب يريد إسقاط النظام». وفي ساحة القصبة قرب مقر الحكومة، أُقيمت احتفالات رسمية حضرها الرئيس التونسي المنصف المرزوقي ورئيس الوزراء حمادي الجبالي ورئيس المجلس التأسيسي المنصف بن جعفر، ورُفع خلالها العلم الوطني في الساحة. ووعد الجبالي بمضاعفة الجهود من أجل التوصل إلى التوافق في البلاد والدفع بالنمو، مؤكداً أنه يريد توسيع الائتلاف الحاكم لتجاوز الانقسامات العميقة في الطبقة السياسية، فيما تعهد رئيس المجلس التأسيسي أن يضمن النص الجديد للدستور «أهداف الثورة ويرسي دولة ديموقراطية والتداول على السلطة». لكنه لم يتحدث عن جدول زمني، فيما وقّع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي ورئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (أرباب العمل التونسيين) وداد بوشماوي، «العقد الاجتماعي» في مقر المجلس الوطني التأسيسي.
وعلى طول شارع الحبيب بورقيبة، توزعت الأحزاب والجمعيات التونسية. واحتل الحزب الحاكم، «حركة النهضة»، قلب الشارع، وتحديداً استقر أمام المسرح البلدي، حيث رفع أنصاره الأعلام التونسية والفلسطينية وأعلام الحركة على إيقاع الأناشيد الدينية والأغاني الفلسطينية، رافعين شعارات تندد بحزب «نداء تونس»، منافسهم القوي، مطالبين بالمحاسبة ومقاومة الفساد مردّدين الشعار الشهير «أوفياء أوفياء لا تجمع لا نداء».
وغير بعيد عنهم، تجمع أنصار «الجبهة الشعبية» وحزبا «الجمهوري» و«المسار الديموقراطي»، قريباً من النصب التذكاري للعلامة ابن خلدون، مردّدين شعارات «الشعب فد فد من الطرابلسية الجدد»، في إشارة إلى حكومة الترويكا التي تتهمها المعارضة بإعادة إنتاج نموذج نظام بن علي بما فيه من فساد ومحاباة.
أما حزب «نداء تونس» وحليفاه «الاشتراكي» و«العمل الوطني الديموقراطي»، فقد انطلق أنصارها من أمام المقر الجديد لحزب النداء في قلب العاصمة في النهج الموازي لشارع الحبيب بورقيبة. ويبدو أن «نداء تونس» المتهم بإعادة «رسكلة حزب التجمع»، حسب تصريحات قيادات «النهضة»، قد أراد من خلال مسيرة أمس عرض قوته في أول تحرك ميداني في الشارع. وشاركت في مسيرته تنسيقياته الجهوية، وهو مؤشر على أن هذا الحزب الحديث التكوين بقيادة عجوز السياسة التونسية الباجي قائد السبسي، سيكون رقماً صعباً في المعادلة السياسية.
استعراض الأحزاب السياسية في الشارع لم يغب عنه السلفيون الذين نصبوا خياماً حول ساعة شارع الحبيب بورقيبة الشهيرة، ورفعوا لافتات تدعو الى تطبيق الشريعة الاسلامية والعودة الى الهوية العربية الاسلامية، فيما لم تغب حركة «الشعب» (ناصريون) وقد رفع أنصارها شعارات تدعو الى وقف الاستقطاب الثنائي بين حركتي «النهضة» و«نداء تونس».
رغم استغلال الحركات السياسية ذكرى الثورة لعرض القوة، لكن الاحتفالات أنهت خوف التونسيين من العنف بين الاحزاب، اذ لم تسجل أي حادثة عنف أو اعتداء، كما كان متوقعاً، باستثناء الاعتداء على الصحافي زياد الهاني، فيما أعربت كل التيارات عن ارتياحها بـ«العرس الديموقراطي».
وقال نوفل الزيادي، الأمين العام السابق للاتحاد العام لطلبة تونس، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي (يسار)، لـ«الأخبار» إن «التونسيين أثبتوا مرة أخرى أنهم قادرون على التعايش رغم خلافاتهم»، وإنه «لا خوف على تونس ما دامت النخبة السياسية مؤمنة بضرورة الحوار والتعايش». وأكد أن «الترويكا الحاكمة مطالبة بالانفتاح على بقية القوى السياسية، لأن مستقبل البلاد هم الجميع».
بدوره، أشار ماهر حنين، عضو المكتب السياسي للحزب الجمهوري، الى أن هذه «الذكرى تؤكد مرة أخرى ضرورة تحالف القوى الديموقراطية المؤمنة بالدولة المدنية والنظام الجمهوري، وهو أحد مطالب الحزب الجمهوري، الذي يعمل على بناء أكبر جبهة تدافع عن الجمهورية والقيم المدنية»، فيما رأى عادل الشاوش، عضو المكتب التنفيذي للحزب، أن «هذه الذكرى كانت عرساً للديموقراطية، وأكدت أن تونس تستوعب كل أبنائها من اليمين الى اليسار»، مضيفاً أن «عهد الحزب الواحد والرأي الواحد قد انتهى»، وأن «ثقافة الإقصاء لم يعد لها مكان في تونس بعد ثورة ١٤ يناير».
وفي السنة الثالثة للثورة، تُقبل تونس على تحولات عميقة في المشهد السياسي، ولعل طرد الرئيس المؤقت المرزوقي من ضاحية سيدي بوسعيد بعدما رفعوا ضده شعار «ديقاج» وتدخل الأمن لإنقاذ وزير الخارجية رفيق عبد السلام بوشلاكة، من احتجاجات الغاضبين، من بين المؤشرات التي تؤكد تفاقم الاحتجاج الشعبي على الحكام الجدد.