دمشق | طبيعة الحياة وتفاصيلها في دمشق، تلخّصها جملة من المشاهد المغرقة في السريالية والعبثية. تفوق في غرابتها مجمل ما أنجزه كبار كتّاب مسرح العبث والدراما، يلعب بطولتها المواطن السوري المغلوب على أمره، بعد إدراكه أخيراً أنّ الحرب المستعرة، التي يعيش أحداثها، حوّلت بلاده إلى مسرح مفتوح لجميع أشكال الأداء الارتجالي والعفوي. من جملة هذه المشاهد: تقف حافلة ركاب في محطة انطلاق السومرية جنوبي دمشق، يتبادل سائقها الشتائم بسرعة مع بعض ركابها، الذين يفضلون النزول والمتابعة سيراً على الأقدام. تسألهم عن سبب الشجار الصباحي، فيجيب أحدهم بانفعال «لقد طلب السائق أجرة تتعدى ثلاثة أضعاف التعرفة المقررة، بحجة رفع الحكومة سعر ليتر الديزل. هل يعقل أن أدفع أكثر من نصف مرتبي الهزيل أجرة للمواصلات؟»، ويتابع سلسلة شتائمه. يضيف آخر «ما ذنبنا نحن إن كان السائق قد اشترى وقود مركبته من السوق السوداء؟ هل علينا أن ندفع له الفرق من جيوبنا نحن؟ أين هي الأجهزة الرقابية المختصة أو شرطة المرور لتحدّ من معاناتنا اليومية؟». مشهد الشجار وتبادل الشتائم يتكرّر مرة أخرى، لكن في ظروف مختلفة. مسرح الحدث هذه المرة «السوق العتيق»، أحد أكثر الأسواق الدمشقية شعبية وفقراً. على امتداد الجهة الشرقية من جسر الثورة، وبمحاذاة جدار قلعة دمشق وسط العاصمة السورية، تنتشر على الأرض بسطات لبيع الخضر والفواكه شبه الذابلة، والكثير من المواد الغذائية والمعلبات التي شارفت مدة صلاحيتها على الانتهاء. ربما هذا ما يبرّر الأسعار الرخيصة التي تميزه عن باقي الأسواق الأخرى، الخاضعة نوعاً ما لمتابعة الرقابة التموينية. حالة من الهرج والمرج والأصوات المرتفعة، تتخللها بين الحين والآخر شتائم وسجالات وألفاظ نابية متبادلة بين الباعة والزبائن، بسبب ارتفاع غالبية الأسعار أكثر من الضعف، وثلاثة أضعاف لبعض أنواع الخضر والفواكه والمواد الغذائية. «البارحة فقط لم تكن جميع الأسعار هكذا»، تروي سيّدة خمسينية فضّلت العودة إلى بيتها من دون أن تشتري شيئاً. تسأل عن السبب فيجيبك البائع بازدراء وسخرية: «شو أنا يلّي رفعت سعر المازوت؟ روحوا اسألوا يلّي فوق».
أبو نزار، يعمل بائعاً للخضر منذ 30 عاماً، شرح لـ«الأخبار»، بأسلوب بسيط مغرق في التهكم خفايا رفع الأسعار بشكل جنوني، ويقول «الخضر والفواكه تحتاج إلى الماء كي تروى، ومضخّات الماء تحتاج إلى الديزل كي تعمل. الخضر والفواكه تُنقل بسيارات شحن كبيرة من حقولها لأسواق الجملة، والسيارات تحتاج إلى الديزل. نحن التجار الصغار نشتري كميات قليلة من البضاعة يومياً كي لا تفسد. نشتريها من تجار الجملة، وننقلها للسوق بسيارات شحن صغيرة، والسيارات تحتاج أيضاً إلى الديزل». ويضيف ضاحكاً «من المؤكد أنّ الكبار في حكومتنا المبجّلة، الذين رفعوا سعر الديزل دون أن يضبطوا السوق السوداء، أعطوا تجار الفساد والأزمات الضوء الأخضر ليزيدوا من استغلالهم لحاجة الناس البسطاء والمعدمين». تسأله عن خفايا السوق السوداء التي تتحكم بسعر ليتر الديزل الذي وصل إلى أرقام خيالية، فيضحك بصوت مرتفع، ويصيح على بضاعته «ريانه هالبندورة... الكيلو بس بـ 85 ليرة... وقرب يا حباب... الله يحفظلنا الحكومة».
وحتى تكتمل معاناة المواطن السوري، أعقب قرار رفع سعر الديزل 40%، قرار آخر صدر أمس برفع سعر البنزين والقمح والدقيق، في وقت يشهد فيه السوق فقداناً تدريجياً للبنزين والغاز المنزلي، إذ وصلت أسعار هاتين المادتين إلى أرقام خيالية في السوق السوداء، ما ولّد حالة من الغضب والنقمة في مختلف أطياف الشارع السوري.
«لم يظهر مسؤول حكومي واحد على الفضائية السورية، أو على أيّ وسيلة إعلامية محلية أخرى، ليشرح ويفصّل لنا حيثيات هذا القرار، وتأثيره على المواطن والاقتصاد الوطني». أين هي الشفافية التي وعدنا بها الدكتور قدري جميل؟»، يقول منذر (44 عاماً)، الذي يعمل مدرساً في إحدى ثانويات دمشق. منذر اشترى مدفئة تعمل على الحطب بدلاً من الديزل، لكنه، أيضاً، فوجئ بارتفاع أسعار الحطب في الأيام الأخيرة. «سيارات الشحن التي توصل الحطب المقطع من المناطق البعيدة، تعمل على الديزل أيضاً! يبدو أنّه لا مهرب للمواطن السوري من لعنة اسمها الديزل»، يضيف.
الخطاب السوري الرسمي، حول اتخاذ قرار رفع سعر الديزل، لخّصه إعلان رئيس الحكومة وائل الحلقي بأنّ «تكلفة ليتر المازوت المستورد تبلغ نحو 66 ليرة ـــ حوالى نصف دولار أميركي ـــ، وبالتالي فإن ما تقدمه الحكومة من دعم لهذه المادة يقدر بنحو 300 مليار ليرة سنوياً». في خطاب تبريري مشابه للغة حكومة ناجي العطري في حملتها التي سبقت قرار زيادة السعر بداية شهر أيار من العام 2008. ومن جملة التبريرات التي قدمتها الحكومة السورية، أيضاً، «تعرّض البلاد لعقوبات اقتصادية خارجية، حالت دون قيام شركة محروقات باستيراد الكميات اللازمة من مادة المازوت، وفق ما هو معتاد سنوياً، الأمر الذي أدى إلى حدوث اختناقات وأزمات كبيرة في توفير المادة للمستهلكين». وحدّد الخطاب الرسمي السوري أسباب تفاقم أزمة المحروقات، بعدم التزام محطات الوقود وسيارات التوزيع بالسعر المحدد سابقاً، وتقاضي زيادات كبيرة تبلغ أضعاف السعر المقرر، الأمر الذي دفع الحكومة إلى رفع سعر الليتر الواحد بنسبة 40% تحقيقاً للنظرية القائلة: بدلاً من فروق الأسعار التي تصب في جيوب المستغلين، يمكن أن تسدّ ثغرة في عجز الموازنة العامة، التي يتوقع لها أن تتجاوز الأرقام المعلنة، بسبب استمرار أحداث العنف والدمار والتخريب للبنى التحتية بسبب الحرب المستمرة، ما يزيد حجم الإنفاق العام من أجل إصلاح وإعادة تأهيل مرافق الخدمات الأساسية. لكن مجمل هذه التبريرات والإجراءات ستبقى عاجزة عن السيطرة على أزمة الديزل، «ما لم تعمل الأجهزة المختصة بحزم وتستنفر جميع أجهزتها الرقابية المختصة لضبط السوق، وتنظيم عملية التوزيع والقضاء على ظاهرة السوق السوداء»، كما يخبرنا الباحث الاقتصادي علي نزار الآغا، الذي اعتبر أنّ قرار رفع سعر مادة الديزل يندرج «ضمن سياسة رفع الحكومة الدعم بشكل تدريجي عن أسعار مختلف السلع والمواد الأساسية، بما فيها مختلف أنواع المحروقات، التي بلغت 18 في المئة قبل بداية أحداث الأزمة السورية». ويضيف «علينا أن نتوقف طويلاً هنا عند الأحداث الأمنية المتردية والمتزامنة مع سلسلة من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على سوريا، التي طالت بالدرجة الأولى حياة المواطنين البسطاء من أصحاب الدخل المحدود. ومنعت العقوبات استيراد مادة الديزل الضرورية لإنتاج وتصنيع قرابة 300 مادة وسلعة أساسية، فضلاً عن أزمة المواصلات الخانقة».