و«هم» أيضاً لن يمروا
كتب أحد النازحين من المخيم لأصدقائه: «كل ما أعرفه في العام الجديد أني لست بخير، والكثير ممن أعرفهم وأحبهم أيضاً ليسوا بخير. لهم أقول: لنحاول أن نبقى في هذا العام على قيد الأمل، ولأننا نحن في ما نحن فيه، ونحن مما نحن منه، قد ننتظر الكثير من المعجزات، لكن عندما نسأم، نحن نصنعها. دمنا سيكون الفارق الحقيقي بين الواقع والخرافة، وللصامدين في حصار مخيم اليرموك لكم مني وحدي، وجميعي، ألف تحية».
الجميع احتفل بالعام الجديد، إلا عاصمة الشتات التي كانت شوارعها معتمة وحزينة. في المدن الكبرى عجّت الشوارع بالأضواء وبالمارّة الذين خفوا على عجل لتحضير أنفسهم لطقوس الاحتفال بالعام الجديد. وحده اليرموك المحاصر كان الغائب الأبرز عن قائمة الحضور؛ ففي اللحظة التي كانت فيها الألعاب النارية تغمر الأجواء، كان القصف يغمر المخيم هنا، بابا نويل لم يمرّ هذه المرة، وهو أصلاً لم يمرّ من هنا ولا مرة، لكن في هذه اللحظة ما أحوج اليرموك إليه، أو إلى أي شخص يشبهه، ربما ملاك في رداء أبيض أو حتى جني في قمقم، لا يهمّ، المهم فقط أن يمارس سحره فيتوقف القصف لبضع دقائق، حتى يتسنى للصغيرة «براءة» أن تنعم ببعض النوم. وبراءة، لم تتم شهرها العاشر أو التاسع. أمها لا تستطيع الجزم؛ فهي لم تعد تحصي الأيام بعد أن تشابهت أمامها وأمام جميع الأمهات في المخيم. المهم الآن أن تنام الصغيرة لبعض الوقت وأن يمارس أي رسول من رسل الله أو الخرافة، سحره، وتحصل المعجزة!
هذه الليلة في المخيم، شديدة السواد، رغم أن التقويم يقول إنها ليلة رأس السنة، والأضواء فيها تبقى ملعلعة تزين الشوارع والبيوت. هذه الليلة شديدة البرد، ولكن يقال إن دفء ليلة العيد يغمر الجميع. هذه الليلة الطعام شحيح، والخبز مفقود، والحلوى مجرد حلم مشترك بين أطفال المخيم وبائعة الكبريت، بطلة القصة الخيالية، وفي هذه الليلة، لمى وياسر ومحمد ويزن، ليسوا في منازلهم مجتمعين مع الأهل، الوالد لا ينهرهم على مشاكساتهم الطفولية مع الضيوف، والأم بدورها لا تغمزهم وتطيّب خواطرهم وهي تعدّ العشاء للعائلة ولزوارها. هم الآن في السماء، يلعبون مع أطفال غزة لعبة الضياء. الليلة لم يجتمع كل الأحبة احتفالاً بالعيد؛ لأن الكثير من بيوتهم «انفجرت» أو على خط القنص. لم يتبادلوا الابتسام ولا التهانئ؛ فالعيد اعتُقل مع الخبز والدواء على حاجز المخيم، وهذه الليلة اختفت أصوات المفرقعات بألوانها الزاهية، وحلت محلها أصوات القذائف وشظاياها الدموية، وأمطرت حممها على الصامدين بعد في اليرموك.
ماريا الصغيرة في شتائها السابع، لم تسأل لماذا انقطعت الكهرباء ولماذا اشتد البرد، وما الذي يعنيه هذا العيد. هي أيضاً لم تلُم أباها على قراره بعدم الخروج من المخيم، رغم أنها لا تعرف أن هذا الموقف يسمى صموداً. هي سعيدة لأن ابنة عمها أسماء، أصبحت تشاركها الألعاب والطعام الفراش، وأحياناً حزينة لذلك. وفي هذه الأيام الرهيبة أصبحت تزاحم أخوتها الصغار: براءة وعبد الرحمن، على حضن الوالدة، وتستمع إلى أحاديث الكبار. غالباً، هي لم تفهم ما الذي يعنيه قول أبيها لوالدتها: «مش طالع من المخيم»! هي أيضاً لا تعرف شكل القذيفة التي تكرر ذكرها في أحاديثهم، لكنها تعرف جيداً صوتها المرعب، وهي لا تعرف شكل الرصاصة، لكنها تعرف جيداً تأثيرها المخيف، ومنذ أيام قليلة فقط، تعلمت درساً جديداً: أن القنص هو شيء ما يؤدي إلى الموت، بعدما شهدت سقوط عمها حسن قنصاً بالقرب من شارع العروبة.
أيام قليلة مرّت في السنة الجديدة ولا جديد في المخيم، سوى زغب خفيف وأبيض يتساقط من السماء، غطى الركام الكثير في الشوارع ورمى رداءه الناعم على قبور الشهداء. ماريّا هذه المرة لم تخرج مسرعة إلى الحارة، وهي ترفع يديها الصغيرتين وتصيح: «ثلج... ثلج»؛ فهي مريضة ولا دواء لديها. ابنة عمها أسماء اكتفت «بجرأة» الوقوف على الشرفة ومشاهدته يمنح لونه الأبيض للمكان، فصديقتها مريضة ولا أحد يلعب معها، تتحايل على نفسها، فتمدّ يدها بخجل شديد لتقبض على إحدى الحبات المتساقطة، وتلعب معها! الوحيد الذي فرح بهذا المنظر الجديد كلياً عليه هو الطفل عبد الرحمن ذو الأربعة أعوام. هكذا رفع سبابته باتجاه السماء وهو ينظر إلى من حوله قائلاً بفرح كلمة غير مفهومة، تفسرها أمه بأنها «ثلج!». أما الصامدون في المخيم، فقد استغلّوا الفرصة، لا ليلعبوا بالثلج، بل ليصوغوا منه بعض ما يحتاجون إليه في هذا الحصار، كقارورة الغاز. آخرون بنوا رجل ثلج ووضعوه على السطح رافعاً علم فلسطين، ربما عدّوه رسالة كافية... إلى من يهمه الأمر.
إن كان لا بد من الأماني لهذا العام، فالصغيرة ماريا تتمنى أن يعاود العم أبو أحمد فتح دكانه كي تشتري «أكلات طيبة». والدتها تتمنى أن تشفى الصغيرة وأن يتوقف القصف حتى تنام طفلتها لبعض الوقت. أما أبوها، فهو يتمنى أن يصمد المخيم في وجه الحصار حتى الأبد. يكتفي بهذا القدر من التمني، ثم ينظر إلى عائلته الصغيرة ويهمس لنفسه: «العام الجديد لم يمرّ من هنا، و«هم» أيضا لن يمروا».
اليرموك- محمود سرحان