لم يعد الغرب وتركيا على الموجة ذاتها في سوريا. الولايات المتحدة منهمكة في رصد صعود نجم «جبهة النصرة» وأخواتها. وسائل الاعلام ومراكز الدراسات المقرّبة من الإدارة الأميركية منشغلة بالبحث في أصول وأسباب الفقاعة المذهبية التي طفت على سطح الحراك السوري المسلّح. حتى بتنا نسمع كلاماً مشابهاً لما يصدر عن حلفاء سوريا: «سقوط النظام اليوم، يعني سيطرة طالبان جديدة». راية حقوق الانسان ومعها أوضاع اللاجئين شكّلت مادة البحث الدسمة على الطاولات الغربية.

«سولو» تركي

في دوائر صنع القرار في أنقرة، يقارب الملفّ السوري من زاوية أخرى. المشكلة السورية هي مشكلة تركية، يصرّح المسؤولون الأتراك. ممنوع على أنقرة أن تقف على الحياد. عبارة ضدّ الجغرافيا والواقع الديموغرافي و«المسألة الكردية». اليوم في رأس العين تنقل تركيا معاركها إلى الداخل السوري، حيث الشريط الكردي «المحرّر» الممتدّ على طول الحدود. المنطقة التي انسحب منها الجيش السوري وتسلّمها عسكرياً حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD) أضحت عبئاًَ على أنقرة. «غرب كردستان» أصبحت «حديقة خلفية» لمقاتلي حزب العمال.
تلعب حكومة أردوغان اليوم ورقة الحكومة السورية الفاشلة عند بداية الحراك السوري، عبر ضرب العرب بالأكراد، لعلّها تكسر شوكة السيطرة «الكردية». فالسيطرة على رأس العين تعني فتح طريق القامشلي وصولاً نحو أقصى الشرق حيث حقول النفط والغاز.
تعيش مدينة رأس العين (سري كانيه)، التابعة لمحافظة الحسكة، منذ أسبوعين، مواجهات عسكرية غير مسبوقة بين وحدات الحماية الشعبية YPG، التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي، بشكل أساسي، وكتائب مسلحة حاولت اقتحام المدينة. الجولة الحالية، ليست الأولى، لكنّها تحمل في طيّاتها قراراً سياسياً و«استراتيجياً» يهدف إلى انتزاع سيطرة الـPYD بشكل كامل. المواجهات بدأت باقتحام أكثر من 17 كتيبة مسلحة، بعضها تابع لـ«الجيش السوري الحر»، قدمت من جهة الحدود التركية على متن أربع دبابات، كما استقدمت مدافع هاون؛ لتبدأ بقصف المدينة. جاء ذلك بعد هدنة سابقة، اخُترقت من قبل كتيبة «أحفاد الرسول» وكتائب أخرى. مصدر عسكري كردي في رأس العين يؤكد لـ«الأخبار» مشاركة «نحو ثلاثة آلاف مسلح في الجولة الأخيرة من المعارك». وقد أجبرت القوات الكردية أخيراً، بعض الكتائب على الانسحاب باتجاه الاراضي التركية. وبحسب المصدر، فإنّ الكتائب التي تقاتل «بفاعلية» في رأس العين هي المجلس العسكري في الحسكة، وكذلك كتيبة «أحفاد الرسول» وكتيبة «غرباء الشام»، ومجموعات تابعة لنواف البشير (رئيس عشيرة البكارة). ويساند هذه الكتائب، بعض المسلحين الأكراد، تحت اسم كتيبتي «مشعل تمو» و«آزادي». ورغم تأكيد أبناء المدينة دخول بعض كتائب «الجيش الحر»، المتواجدة بمحافظة الرقة، إلى رأس العين، ينفي قائد «المجلس العسكري الثوري» في الرقة، العقيد الركن المنشق حسين كلش مشاركة الكتائب التابعة للمجلس في المعارك الأخيرة، مستدركاً بالقول: «نحن شاركنا في معركة تحرير رأس العين في البداية». ويوضح لـ«الأخبار» أنّه «إذا طُلب منا، وكان بالامكان تلبية النداء، فاننا لن نبخل». وتعتمد القوات الكردية على مجموعات صغيرة تتنقل في أحياء المدينة، ويلاحظ بين عناصر هذه المجموعات مقاتلون ممن قضوا سنوات عديدة في جبال قنديل، حيث يتمركز مقاتلو «الكردستاني» في تركيا.
التوتّر انسحب باتجاه غرب المدينة، إذ تشهد منطقة تل أبيض (كري سبي) التابعة لمحافظة الرقة، توتراً بين قوات YPG و«الجيش الحر». وبالرغم من تأكيد العقيد كلش أنّ الوحدات الكردية هناك «لم تسئ لكتائب الجيش الحر»، إلّا أنّه لم يخفِ «الشكوك والمخاوف من إقامة (YPG) حواجز قريبة من مدينة تل أبيض». وعلى ما يقول نشطاء في المدينة، يفرض الجيش الحر، ومنذ بدء الجولة الأخيرة من المواجهات في رأس العين، طوقاً حول تل أبيض، بتكثيف الحواجز على مفارق الطرق المؤدية إلى المدينة.
وتقاتل وحدات الحماية الشعبية الكردية على أكثر من جبهة. فبعد خوضها مواجهات عنيفة مع كتائب من الجيش الحر في أحياء من حلب، وفي بعض قرى عفرين قبل نحو ثلاثة أشهر، أقامت هذه الوحدات حواجز على طريق «رودكو»، الذي يربط طريق حلب بمحافظة الحسكة.
ونجح (PYD) عبر جناحه العسكري (YPG) في جذب الشارع الكردي داخل سوريا، وكذلك شريحة من عرب القامشلي وريفها. واستطاع أنّ يجمع العديد من المؤيدين والمقاتلين بسبب الحشد غير الطبيعي من «الأعداء». كما تعالت أصوات مسيحيي محافظة الحسكة المؤيدة للحزب الكردي، الذي يمنع دخول «الفوضى والخراب» إلى المنطقة، وفقاً لنشطاء مسيحيين.
في المقابل، فشلت أنقرة في ضمّ بعض العشائر العربية إلى المعركة، وعلى رأسها عشائر شمر، القاطنون في «الحزام العربي» الممتد بين حدود البلدين، يروي نشطاء متابعون إلى «الأخبار».

انتصار الـPYD؟

بدأت منذ يومين «هدنة غير معلنة» بين طرفي القتال، ساهم في انجاحها شخصيات كردية وعربية على صلة بالفريقين. وانسحب بعض الكتائب المسلحة من المدينة. خلال الهدنة وسّع المقاتلون الأكراد مساحة انتشارهم. نشروا صورهم أمام المراكز الدينية المسيحية المنضوية تحت حمايتهم. واستطاعوا أن يرسلوا جرحاهم إلى المستشفيات القربية، فيما جرحى «المهاجمين» نقلت إلى مراكز طبية ميدانية داخل الحدود التركية، كما جرت العادة.
«الهيئة الكردية العليا» اجتمعت، أمس، وقرّرت أن تكون هيئتها التنفيذية بمثابة حكومة محلية انتقالية. وكلّفت ثلاثة من أعضائها التفاوض مع «الائتلاف» المعارض لإيقاف الحرب في رأس العين على نحو دائم، وبشرط: انسحاب جميع المجموعات الغريبة من المنطقة، وتشكيل إدارة مدنية من كافة مكونات في رأس العين لإدارة شؤون المدينة، وتعويض المتضررين. ورأت أنّ الانكسار الكردي قي المدينة غير مقبول بأيّ شكل من الأشكال.
القيادي في الحزب الديموقراطي التقدمي الكردي (تيار الإصلاح)، فيصل يوسف، رأى في حديث لـ«الأخبار» أنّ الدور التركي مسيء للثورة السورية، وأنّ أنقرة مسؤولة عن دمار رأس العين عبر دعمها مجموعة من المرتزقة والسلفيين. واعتبر أنها بدأت تلاحظ كساد زرعها. استطاع حزب الاتحاد الديموقراطي أن يفرض سطوته مجدّداً، عبر تصدّره المشهد العسكري والشعبي. الباب مقفل أمام الأتراك لكن النوافذ كثيرة.