الزعتري | أول سؤال يتبادر الى الذهن عند الدخول إلى مخيم اللاجئين السوريين في قرية الزعتري الأردنية «كيف استطاع الناس هنا الاستيقاظ في يومهم الأول من اللجوء؟». لا مواعيد ليتأخّروا عليها، ولا عمل ينتظرهم، ولا مدارس ولا غيرها. هم لاجئون وحسب. هاربون من موت أعمى، وقد تركوا بيوتاً عامرة بالخيرات، التي يطلبونها تسوّلاً هنا. هنا مخيم الزعتري. مخيم الفقر والتسوّل والذلّ، فأين ما قالت الدول إنها أرسلته الى أهله من مساعدات؟دخول المخيم يحتاج الى تصريح يُبرز على المدخل لرجل الأمن. وعلى يمين الداخل، توجد خيمة كبيرة للهيئة الهاشمية المسؤولة عن إدارة المخيم. وعلى اليسار، المستشفى الفرنسي، الذي أُعدّ لمعالجة اللاجئين السوريين فقط. وهنالك عدّة مستشفيات في المخيم كالسعودي والمغربي والأردني والإيطالي، وهذه المستشفيات تعالج الجميع، ومن دون مقابل. يقول المرافق إن التعامل داخل المخيم يكون بالعملة السورية، وينصح بالحذر من كل التصرفات داخل المخيم، «واستخدام عقلك جيداً، هذا إن بقي لك منه شيء». الشارع الرئيسي أصبح سوقاً مركزياً كبيراً. والخيم الصغيرة أو الكرفانات مصطفّة على طول الشارع. هناك تُباع الخضر والدخان والعوامة. وهنا حلّاق وصرّاف أيضاً لتحويل عملات المساعدات إلى العملة السورية. الأفكار تجري بسرعة وتتعثر. يتبادر الى الذهن صورة لجوء الشعب الفلسطيني ومخيماته، أهكذا كانت الحال أم أسوأ؟ كيف لشعب عاش مكرّماً معزّزاً في أرضه وبيته أن يحمل نفسه ويهرب ليعيش على أرض غريبة. أغاني فيروز وصلواتها تحضر الى البال «ظمأ الشرق يا شام اسكبي».
يلتفت الرأس إلى صوت تاجر يقول لامرأة بلهجة حورانية واضحة: «خديليك كيلو هالبندورة للولاد»، فتجيب «والله ما معي مصاري بقدر اشتري»، حكى لها «إحنا شعب نخوة يا بنت الحلال».
داخل المخيم مخيمات؛ مخيم البحص ومخيم التراب مقسّم الى «بلوكات» من 1 الى 10. أما المخيم السعودي أو مخيم الكرفانات، فهو موجود في آخر الزعتري. اللافت أنّ المخيم السعودي موحش تماماً. يرفض اللاجئون السكن فيه. يقول المرافق «كل مجموعة من الخيام لها مطبخ وحمامات مركزية». ويبدو المخيم السعودي بمثابة الجزء الراقي بين المخيمات. تمتد بين «الكرفانات» الكبيرة حبال الغسيل من شباك الى شباك، لكن «حتى في الكرفانات بتدلف ماي».
وجود الحفريات التي تؤسّس لوجود بنية تحتية في المخيم يُثير الهلع، فهي مؤشر على أنّ المعاناة ستطول أكثر مما يعتقد الناس هنا، كما ظنّ قبلهم أهالي مخيم إربد والحصن وغزّة. ولو استمر الوضع على ما هو عليه ونما المخيم نمواً طبيعياً، فهل سيصبح هنالك تسميات مثل ابن الكرفان، وابن الخيم، وابن التراب، وابن البحص، وابن الخيمة المضادة للماء مثلاً. في إحدى الخيم، عائلة رُزقت بمولود جديد من مواليد الزعتري، أطلقت عليه اسم «الفرنسي»، وعند السؤال عن السبب، قالوا إنه «ولد في المستشفى الفرنسي».
ليس بعيداً من خيمة عائلة «أم الفرنسي»، يقف طفل لا يتجاوز خمسة أعوام، لديه خامة صوت عالية جداً، كان يهتف ضد النظام السوري والأطفال يردّدون من ورائه. على بُعد خطوات يردّد «نشمي الثورة»، فادي الفندي، «وعالعين موليتين وعالعين مولايا، درعا بتقدم أرواح لحمص هدية».
بين الخيم تركض طفلة صغيرة اسمها غزلان. لا تتجاوز خمسة أعوام. غزلان تملك وجهاً جميلاً جداً، حتى بعدما استقرت شظية في جبينها وشوّهته. كانت تتلقّى العلاج في مستشفى الملك عبدالله، لكنهم أوقفوا لها العلاج بسبب عدم القدرة على دفع التكاليف التي كان من المفروض أن يدفعها الهلال القطري الذي «أعلن إفلاسه». ليس بسبب تكاليف العلاج العالية، بل لأن المستشفى كان يقوم باحتساب أسعار المواد التي يستخدمها في العلاج مرّتين أو أكثر، كما يقول أحدهم.
في بيت «خيمة» عائلة غزلان، تُستقبل بحفاوة، قبل أن تُدهش لمفاجأة. في الخيمة معمل هريسة! صدور الهريسة وتنكات القطر متراصفة داخل الكرفان. يقول الأب «إحنا أصحاب محلات حلو في درعا. ومش قادر أقعد بدون شغل. وهاي شغلتي إلّي بعرف أعملها».
الهريسة شهية، لكن الأب يردف قائلاً «أنا حزين لأني لا أستطيع إنتاج ذات الطعم للهريسة التي كنت أصنعها في سوريا»، فتشرح الجدّة «القمحة هناك بلدية. هون أميركية. والسمنة عنا كمان بلدي، بس نرجع بتيجي عنا منطعميكي هريسة عالأصول».
اللحمة ممنوعة داخل المخيم. تقول إحدى السيدات «نفسنا ناكل اللحمة، عكرت المونة منقدر ناخد رز وسكر وعدس وزيت بس». وتضيف «اللحوم ممنوعة داخل المخيم، لكنّ هناك شخصاً استطاع أن يهرّب كيلو لحمة، وعندما اكتشفت الادارة أخذوه منه».
عند سؤال إحدى العاملات في منظمة الغذاء العالمية في المخيم عن كيفية حصول اللاجئ على مونته، تقول إنه يتعيّن «على الشخص أن يمرّ بـ3 خيام. الأولى للتأكد من هويته، بعد أن يعرض عليهم كرت المفوضية. والثانية ليحصل على كرت مؤقت، والثالثة خيمة القالقة ليجمع المواد التموينية ويسلّم الكرت. كل 14 يوماً يتسلّم اللاجئ هذه المواد». تقول سيدة سورية: «إحنا ما جينا على هالبلد عشان نشحد سكر وزيت، إحنا هربنا من القصف. إحنا أهل الكرم وسفرتنا كانت عامرة بالكبة والفقاعية والأكلات الطيبة. إحنا عايشين بذلّ حقيقي».
الصورة التي ينقلها الإعلام ليست بشيء أمام حقيقة «معسكر» الزعتري، كما يسميه أهله. حكاية شعب هرب من الموت ليجده أمامه من خلال الذلّ والحرمان. وهي كارثة لن تنتهي أو تتراجع، بالعكس، فمعدل زيادة اللاجئين في الزعتري الذي يضم 65000 لاجئ يتراوح ما بين 1200 و2000 شخص أسبوعياً.



الجيرة والمتنفّذ

وليد هو حلاق الحارة. محلّه عبارة عن خيمة كُتِب على جدارها «حلاق». يقول أحد الأطفال عند سؤاله إن كان يحلق عند وليد «آه ويلا كل الحارة بتحلق عندو». لكن «أي حارة». يجيب «ولك حارتنا بالصَوَرة (المخيم). هاي خيمة دار فلان، وهاي خيمة جيرانا، ضلهم جيرانا، هاي الخيمة لعمتي». عادت الناس لتتجمع كما كانت قبل اللجوء. لكن هذه المرّة لن ترسل الجارة ابنها ليطرق خيمة الجيران ويطلب منهم بعض الحاجات للطبخ، ستخجل من ذلك «لأنها تعلم أنهم ما عادوا في درعا، سيعزّ الطلب بكثرة كما الحاجة».
لكل مجموعة من الخيم شخص «واصل» يُسمى «المتنفذ» «هو ألي بوخد مصاري عشان يهربلنا حاجياتنا من برّة المخيم وكمان بيحمينا». لكن يحميهم ممن؟ يقول أحد اللاجئين إن الموت أفضل من هذه الحياة التي يعيشونها وأن «الناس كلها تتمنى الخروج من معسكر الزعتري»، كما يسمّيه. ويضيف «مش كل الناس بتقدر تهرب. ألي معاه مصاري بس».