لم تنتظر القطيف طويلاً. بعد «بوعزيزي» تونس، بقليل، خرجت مُعلنةًً ظُلمها. تلك المدينة الرئيسية في السعودية، والمركزية في المنطقة الشرقية، لم تجد حرجاً في طلب الحرية. بل يمكن القول إن الحراك بدأ قبل «بوعزيزي» والربيع العربي بزمنٍ ليس بقليل؛ ثمّة من تحرّك في تلك البلاد، ولو همساً، بطلب العدالة.
انتفضت القطيف، ومعها أخواتها في المنطقة الشرقية، في آذار من عام 2011، أي بعد شهر من انتفاضة البحرين. انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة مطالبةً برفع الظلم وإنهاء حالات التمييز الطائفي التي تُمارس بحقهم، بما أن غالبية أبناء المنطقة من المذهب الشيعي. التمييز الذي مارسته السلطات الحاكمة امتد ليشمل الحرمان من المشاركة في كثير من المناصب السياسية والحكوميّة، هذا فضلاً عن التضييق الذي شمل الحريات الدينيّة.
رغم انتفاضة أهل القطيف، لكن لا يمكن وصف ما يجري بأنه «ثورة». حراك أهل تلك المنطقة لم يرفع شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام». ورغم اشتداد الحملة الأمنية على المنتفضين، لم يُرفع هذا الشعار إلا من قبل قلّة من الشباب، الذين أخذتهم الحماسة، أو الغيرة من دول الجوار الثائرة. العنوان العريض لتلك الهبّة الشعبية يمكن تلخيصه بثلاثة مطالب: الحرية والإنصاف، كحق مكتسب أقرّته شرعة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وإطلاق سراح السجناء المنسيّين، الذين اعتُقلوا على خلفية تفجير «أبراج الخبر» في عام 1996، إضافة الى خروج درع «الجزيرة» من البحرين.
على مدى أشهر مضت، امتلأت الشوارع بالشباب الغاضبين. ظلّ الحراك، كما بدأ، سلمياً. لم يُستخدم السلاح من جانب القطيفيين، رغم سقوط ضحايا منهم برصاص الشرطة السعودية التي تصدّت لهم بالرصاص الحي والقنابل المسيّلة للدموع. أدار الإعلام العربي، والخليجي تحديداً، أذُنه الطرشاء لما يحصل. لكن مواقع التواصل الاجتماعي حاولت سدّ الفجوة. وجد الناشطون في موقع «تويتر» الملاذ الوحيد لتوجيه الانتقادات اللاذعة لـ«إجرام آل سعود». استهدف الرصاص الحي وطلقات «الشوزن» (المحرّمة دولياً) كل الاحتجاجات الرافضة للسياسات التعسفيّة في مدن القطيف والإحساء والدمام.
كان التحوّل الأساسي في الحراك القطيفي بعد سقوط أول قتيل، وهو ناصر المحيشي، قبل سنة وثلاثة أشهر. يومها، قال والد الشاب «لقد أطلقت الشرطة السعودية أربع رصاصات على ظهر ابني عند حاجز تفتيش في القطيف بعدما اتّهمته بأنّه كان يرتدي قناعاً وينتمي الى المتمردين، لكني لن أسكت ودم ابني لن يذهب هدراً». تصاعدت حدّة التوتّر بعد سماع نبأ مقتل المحيشي، والحديث عن رفض السلطات السعوديّة تسليم جثّته لعائلته؛ فشهدت منطقتا القطيف والعوامية مسيرات ضخمة تطالب بإيقاف حملات القتل والاعتقالات بحق أهالي المنطقة الشرقيّة.
الحدث المفصلي الثاني كان مع اعتقال إمام جامع العوامية، نمر النمر، على خلفيّة خطبة دينيّة هاجم فيها الأمير السعودي الراحل نايف بن عبدالعزيز (كان في حينها ولياً للعهد)، ووصفه بـ«الطاغية». لم يهدأ شرق السعوديّة بعد سماع خبر الاعتقال، فخرج آلاف المتظاهرين الى الشوارع مردّدين «الموت الموت لآل سعود».
أخرج القمع، الذي تلى تظاهرات الاحتجاج على اعتقال النمر، كل «الغضب الساكن في صدورنا منذ سنين طويلة»، بهذه الكلمات تتحدث الناشطة الحقوقية مريم (اسم مستعار). وتوضح لـ«الأخبار» «لست بلا اسم أو عائلة، لكن الخوف من البطش والتنكيل في مكان العمل، يجعلني أتمنى عليكم عدم ذكر اسمي الكامل». عبارة الناشطة كشفت الحالة التي يعيشها أهالي المنطقة الشرقية، والتهميش الذي شملهم في مختلف المجالات السياسيّة والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، إضافةً إلى حرمانهم من خيرات أرضهم، المعروفة بغناها النفطي على مستوى العالم. تلك المنطقة التي تحوي أكبر مخزون نفطي في العالم (25 في المئة من الاحتياط العالمي)، تُعتبر اليوم من أكثر المناطق فقراً وإهمالاً.
وبحسب مصدر قطيفي، عمل على أرشفة ممارسات النظام السعودي لسنوات طويلة، فإنّ أفراداً من العائلة المالكة «لا يزالون يستولون على الشواطئ، ويوقّعون عقوداً مع شركات متخصّصة لردمها وتحويلها لمخطّطات سكنية، ومن ثم يبيعونها للسكان المحلّيين بأسعار ضخمة». ويضيف المصدر نفسه لـ«الأخبار»: «يحصل هذا رغم صدور قرار ملكي بعدم الردم، إلا أن ذلك لا ينطبق سوى على المواطنين العاديين، إذ ينتاب المواطنين غبن شديد لكون مناطقهم تزخر بالثروة المائية، لكنها استُنزفت في مشاريع «أرامكو» النفطية. كذلك جفّت عشرات العيون التاريخيّة في الأحساء نتيجة الإهمال الحكومي، وتحويل مسار ينابيعها الى آبار البترول».
وتجدر الإشارة الى أن المناصب التي يتبوّأها الشيعة في شركة «آرامكو» النفطية، والتي تعتبر من أعمدة الاقتصاد السعودي، محدودة للغاية، وتكاد تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. ويشرح جعفر، ابن القطيف الخمسيني، الذي كان يعمل موظفاً حكومياً: «في السلك الدبلوماسي، يُحرم أصحاب المذهب الشيعي من العمل في الوظائف الإداريّة والسفارات، إذ لم يسبق أن عيّنت الحكومة أي شخصية شيعية في منصب رفيع باستثناء منصب سفير، الذي مُنح مرّةً للدكتور جميل الجشّي، لمدّة ٤ سنوات من دون تجديد». ويضيف جعفر، الذي تمنى عدم ذكر اسم عائلته نظراً إلى موقعه الرسمي الذي يشغله، أنّ آل سعود «يمنعون أي شيعي من تبوّء أي منصب رفيع في الدولة، بل أيّ منصب متوسط حتى، كما لا يحق لهم الانتساب الى أي فرع من فروع الأمن من حرس وطني وشرطة وحرس حدود».
«إذاً، ممنوع على الشيعة، بنظر آل سعود، الدفاع عن حدود البلد الذي ينتمون إليه. عليهم أن يفهموا، ربما، أنّهم بنظر الحاكمين غير مأموني الجانب، بل ربما أعداء لوطنهم»، هكذا يتحدث الرجل القطيفي، بلهجة فيها الكثير من الحرقة، والأمل بأن «تصل إلى بلاده ولو نسائم خفيفة من نسائم الربيع العربي».
ولا يقتصر التمييز على الجانب الاجتماعي والسياسي والإداري، بل يحاول حكام آل سعود وضع القيود على أنشطتهم الثقافية؛ فوزارة الإعلام السعوديّة، على سبيل المثال، تحظر على أهل القطيف امتلاك دور النشر، بل «تمنع حتى الكتب الدينيّة المعنيّة بالمذهب الشيعي. كذلك تعرّضت مئات المواقع الدينيّة لهؤلاء على شبكة الإنترنت للحظر، كشبكة راصد الإخباريّة وملتقى القطيف الثقافي وشبكة الجاروديّة الثقافيّة». هذا ما ترويه فاطمة، الناشطة في مجال التدوين على الإنترنت، التي سبق أن علمت استخبارات آل سعود بنشاطها، وأوصلت إليها «رسالة تخويف».
الفرح ممنوع
تفرض الحكومة السعودية شبه حظر على بناء صالات الأفراح في المنطقة الشرقيّة، خوفاً من استثمارها في أنشطة معارضة للحكومة. وسبّب هذا الحظر في عام 1999 نشوب حريق في بلدة القديح بالقطيف، ما أدى الى مقتل عشرات النساء والأطفال. عقب الحادثة سمحت الحكومة ببناء بعض صالات الأفراح، وأمر وليّ العهد آنذاك، الأمير عبدالله، ببناء صالة أفراح على نفقته الخاصة وتقديمها هديّة لأهالي القديح.
وكانت بلدة القديح قد شهدت في عام 1999 حريقاً في خيمة زفاف كانت مكتظة بالنساء والأطفال، وأدى الحادث إلى وفاة 76 من النساء والأطفال وإصابة 400 شخص آخرين.
في القضاء هناك محكمتان في الأحساء والقطيف، مخصّصتان للشيعة، ولا ينظر فيهما إلا في قضايا الزواج والطلاق والإرث. أما الشيعة في بقية مناطق المملكة فيُجبرون على الرجوع الى المحاكم الوهابية، هذا ما يؤكّده رجل دين قطيفي، يوصف بأنّه وسطي.
فاطمة، التي عملت في مجال التعليم، تتحدث عن المعاناة في الجانب التعليمي والتربوي، فتقول: «منذ بضعة أشهر تمّ تعيين أوّل امرأة شيعيّة في منصب مديرة. لقد كانت فرحة لا توصف لنا. منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ووزارة التربية والتعليم السعودية تفرض حظراً على المعلمات الشيعة؛ فهنّ محرومات من تقلّد منصبي الإدارة والوكالة لأسباب غير معلنة، رغم توجيه العشرات من الرسائل والخطابات التي تطالب بتفسير واضح لعدم تعيين المعلّمات المنتميات إلى محافظتي القطيف والأحساء في المناصب العليا في المدارس، وعموم وزارة التربية والتعليم، إلا أنّ الوزارة لم تعلن موقفها العلني يوماً».
تروي مريم، وهي طالبة من القطيف، حكايتها مع الجامعة. تتحدث بداية، وقبل أي سؤال، عن «التمييز بحق الطلاب الشيعة». تقول: «نجحت في امتحان الدخول الجامعي بمعدل عال، وبعد المقابلة رُفضت، وذلك عندما علموا بأنني من القطيف، فاضطررت الى متابعة تحصيلي الجامعي خارج المملكة». أما زميلتها خديجة، فتروي ما حصل معها بعد تخرّجها. تتحدث بكثير من المرارة، قائلة: «أنهيت تحصيلي العلمي عام 2009، ولا أزال حتى اليوم بحكم العاطلة من العمل، وذلك بسبب تخصّصي في مادة التاريخ التي لا يحق للشيعة تدريسها في مدارس السعودية وجامعاتها».
محمد القحطاني، الشاب القطيفي، تجده على تماس أكثر مع المعاناة اليومية بحكم كونه رجلاً. يقول «هناك تفقير، وتهميش وتمييز مذهبي وعنصري حتى أثناء تأدية مناسك الحج، إذ يتعرّض شيعة السعودية لمضايقات وإهانات. لقد عملت الحكومة السعودية على تغييب قضايانا، وأظهرتنا طائفيين ذوي أجندات خارجيّة، وهذا غير صحيح. لا أقبل من أحد أن يزايد عليّ في وطنيّتي. يتهموننا بأننا أتباع إيران وأننا من الفرس. هذا محض افتراء، أنا عربي ابن عربي، ولا أقبل التشويه». ويضيف: «اعتقلت السلطات السعودية الموقّعين على البيان الذي صدر عن نخبة من المثقفين والحقوقيين، وفي المناسبة كان كثير منهم من السنّة. وتضمن مطالب بتحقيق دولي بحق ما يحدث في القطيف، وفي سجون جدّة».
آخر ضحية قدّمتها القطيف كانت أحمد آل مطر، ابن الـ17 ربيعاً. أردته رصاصة رجل أمني سعودي. الحراك يدخل في عامه الثاني، لكنه متواصل. يقول الأهالي «دماء شهدائنا وقود للانتفاضة، فكلما سقط لنا شهيد ازددنا قوة لنيل حقوقنا». وفي عصر ما يُسمى الربيع العربي، لا سبيل للمملكة كي تركب قارب النجاة إلا من خلال إعطاء مواطنيها حقوقهم.



العدالة بالأرقام

يشير تقرير صادر عن مركز العدالة لحقوق الإنسان إلى أنّ السلطات السعوديّة ألقت القبض على أكثر من700 شخص منذ انطلاق المسيرات الاحتجاجيّة عام 2011. وفيما أُطلق سراح غالبيتهم، لا يزال هناك ما يقارب ١٧٠ شخصاً داخل السجون. وبحسب التقرير المذكور، «لقد أدّى إطلاق قوات الأمن النار على المتظاهرين إلى سقوط نحو 10 قتلى ونحو 36 جريحاً». واستنكر التقرير «حالات التعذيب التي تحصل في سجن المباحث العامة في الدمام، والتي تشمل الصعق بالكهرباء في الأعضاء التناسلية، والضرب بالخراطيم وإجبار المعتقلين على الوقوف لساعات طويلة وأيديهم مرفوعة».
ووجّه مركز العدالة خطاباً إلى الملك عبدالله، طالبه فيه بالتحقيق في الأحداث الأخيرة في محافظة القطيف، والتي نتج منها قتل وجرح عدد من المواطنين ومحاسبة المتجاوزين من رجال الأمن. وأشار الى أنّ قوات الأمن «اتخذت إجراءات تعسفية لإلقاء القبض على المحتجين بلغت حدّ الهجوم المسلح، ما أدى إلى سقوط ضحايا أبرياء من المواطنين. فالاستخدام الخاطئ والسيّئ للعنف المسلح من قبل رجال الأمن، أدى الى الاستخفاف بأرواح الناس وأوقع الضرر في أمن المجتمع وسلامته، وعرّض الأبرياء من المارة لمخاطر الإصابة والوفاة وإتلاف الممتلكات».