دمشق | اجتاحت نار الحرب السورية مخيّم اليرموك منذ أشهر. فشلت مجمل المفاوضات والمحاولات السياسية، التي قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية، بهدف إقناع أطراف الصراع والاقتتال في إعادة الأمن والهدوء إلى أرض المخيّم. استقرت عائلات كثيرة من نازحي اليرموك في مخيم خان الشيح، ثاني أكبر المخيّمات الفلسطينية على الأراضي السورية، الواقع على بعد 40 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة دمشق. لكن لعبة الموت لحقت سريعاً بالمدنيين العزل، عندما تصاعدت المناوشات والمواجهات العسكرية بين «الجيش الحر» ومجموعات اسلامية متشددة، في المناطق المحيطة بمخيم خان الشيح في الأسابيع الماضية، رافقتها عمليات خطف جماعية، ما زاد حدة الاحتقان والخوف والغضب. وصلت، إذاً دائرة النار والصراع الدموي المحموم إلى المخيّم، ليتقاسم سكانه واللاجئون إليه، على حدّ سواء، الرصاص والقذائف التي تستهدف أبنيته الفقيرة من جميع الجهات. لا تختلف طبيعة أبنية مخيم خان الشيح وتوزعه الجغرافي، عن غيره من مخيّمات اللجوء الفلسطيني. منازل بسيطة بنيت على عجل بعيداً عن أعين البلدية، تكدس بعضها بمحاذاة بعض، تفصل بينها أزقة ضيقة جداً، وتعتلي جدرانها صور فصائل المقاومة الفلسطينية وملصقاتها، التي لها حضورها المتفاوت بين أبناء المخيم. هؤلاء ينتمي معظمهم إلى العشائر العربية الفلسطينية، التي لجأت من شمال فلسطين إلى أرض المخيّم منذ عام 1948. ربما هذا ما يفسّر الحضور الطيّب الذي لعبه وجهاء ومشايخ عشائر المخيم منذ بداية الأحداث السورية، لدى مطالبتهم المستمرة بتطبيق سياسة النأي بالنفس، والابتعاد عن التدخل في أحداث الأزمة أو الحرب مهما كانت الظروف.
أبو هاني (54 عاماً)، صاحب متجر صغير في سوق مخيّم خان الشيح، قال لـ«الأخبار» إنّ «حضور وجهاء العشائر وزعامات العائلات الكبيرة، كان له دور تعدى خطاب فصائل المقاومة على اختلافها داخل المخيّم. طبقت سياسة المقاطعة والنبذ من العشيرة بحق كل من يتجاوز هذه الحدود». لكن تجاوزات كثيرة حصلت في المخيم، تصاعدت حدتها وحضورها في الأيام الأخيرة، بعد العثور على إمام مسجد منطقة دروشا المحاذية للمخيم الشيخ سلطان هايل، مقتولاً ومنكلاً بجثته التي رميت في مزرعة قريبة من المخيّم. جرى تبادل الاتهامات في مقتل الشيخ هايل، بعضها حمّل اللجان الشعبية مسؤولية اختطافه ومقتله، والبعض الآخر اتهم عناصر الجيش الحر بتصفية الشيخ الذي كان يتهم بأنه كان يعمل مخبراً لأجهزة الأمن السورية. هذه الحادثة كانت الحدّ الفاصل في تفجر وضع المخيم أمنياً، لتزامنها مع عملية كبيرة قامت بها «جبهة النصرة»، استهدفت موقعاً أمنياً مهماً في منطقة سعسع المحاذية للمخيم. على أثرها انسحبت جميع الحواجز العسكرية التابعة للأمن والجيش السوري النظامي من المخيّم، ما سبب فوضى وغياباً تاماً للأمن الذي كان يعيشه أبناء المنطقة، ثمّ حصلت عمليات اختطاف جماعية، لحافلات ركاب صغيرة من الشارع العام، وبعض المناطق القريبة والمجاورة، وعُثر على عشرات الجثث لبعض من اختطفوا. يخبرنا أيهم، الشاب الفلسطيني الناشط في عمليات الإغاثة ومساعدة النازحين في المخيم، أنّ «رائحة الموت والأشلاء المقطعة والمتفسخة، انتشرت في المخيم، تحديداً في المنطقة الغربية والمزارع الكثيرة المنتشرة فيها، التي تحولت إلى أماكن لإقامة النازحين. لا أحد يخاطر اليوم بالخروج من منزله خشية الخطف والقتل. لا نريد تكرار مأساة مخيم اليرموك». ولدى سؤاله عن هوية من يقوم بالخطف والقتل، يفضّل أيهم الصمت، وينهي حديثه بالقول: «وحده الله يعلم بحقيقة ما يجري. إنه سباق محموم في القتل والدموية والإجرام، تتنافس على الفوز به بعض أطراف الحرب الدائرة، ليس في مخيمنا فقط، بل في عموم المناطق والمدن السورية جمعاء».
لم يقف أهالي المخيّم مكتوفي الأيدي، في انتظار تحول مخيمهم إلى ساحة للحرب والاقتتال. سرعان ما خرجت تظاهرات حاشدة جالت شوارع المخيم الرئيسية، وطالبت بخروج جميع المظاهر المسلحة من أرض المخيم، والمحافظة عليه وإبقائه منطقة آمنة ومعزولة، وملجأ لأكثر من 40 ألف نازح فلسطيني وسوري. هذا ما أكدته بدورها فصائل المقاومة الفلسطينية التي عقدت اجتماعاً قبل أيام، لمناقشة تداعيات أحداث مخيم خان الشيح، وخرجت في بيان مشترك جاء فيه: «ضرورة العمل على تجنيب المخيم مخاطر قد تؤدي إلى حصول ارتدادات سلبية يمكن أن تحدث خسائر بشرية وأضراراً بأبنائه وممتلكاته». وأثارت بعض نقاط البيان سخط بعض أبناء المخيّم واستياءهم، عندما طالبت فصائل المقاومة بـ«العمل على تعزيز تثبيت الناس في منازلهم، ومواجهة كل الشائعات التي تؤدي إلى زعزعة ثقة الناس بأنفسهم وتدفعهم إلى مغادرة منازلهم». فمن المعروف أنّ مجمل فصائل المقاومة قادة وزعمائها لا يقيمون في المخيم الذي يتعرض للقصف على مدار الساعة. «هل يدرك هؤلاء القادة والزعماء حجم الخوف والرعب الذي نعيشه داخل بيوتنا؟ لقد مللنا من كلامهم وخطاباتهم وبياناتهم التي لا تتعدى حدود المطالبة وتسجيل المواقف السياسية»، يقول أبو أدهم (62 عاماً) من سكان منطقة غرب النهر في المخيم، الذي قصف منزله إثر هجمات صاروخية تعرضت لها بعض مناطق المخيم، التي تحولت إلى قواعد للجيش الحر.
«هناك أكثر من 300 عنصر من الجيش الحر يتمركزون في المخيم الآن، من بينهم عدد من عناصر جبهة النصرة. لا أحد يستمع إلى مطالبنا. لا نريد شيئاً سوى تحييد المخيم من حسابات الصراع الدائر»، يضيف محدثنا. لم يكترث الجيش الحر بالتظاهرات التي خرجت للمطالبة بعدم دخوله أرض المخيم، بالمقابل لن يتردد الجيش السوري النظامي بقصف بعض مناطق المخيم التي حولها «الحر» إلى ثكنات عسكرية. أزمة إنسانية حقيقة يتوقع أن يعيشها سكان مخيّم خان الشيح في الأيام المقبلة، مع التناقص الكبير في المواد الغذائية الأساسية، وخشية أبنائه من وقوع مجازر مشابهة لتلك التي وقعت في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة. حركة نزوح عكسية سجلت في الساعات القليلة الماضية من المخيم، هرباً من المجزرة المتوقعة، لكن إلى أين هذه المرة؟