تونس | لا يزال الشارع التونسي يعيش تحت وقع الصدمة التي سبّبها اغتيال الأمين لحزب الوطنين الديمقراطيين والقيادي في الجبهة الشعبية شكري بلعيد الذي سيُدفن اليوم الجمعة في جنازة وطنية، في الوقت الذي أعلن فيه الاتحاد العام التونسي للشغل، أقوى المنظمات النقابية وأعرقها، تنظيم إضراب عام سياسي اليوم احتجاجاً على المسار السياسي الذي أدى إلى اغتيال القيادي اليساري. ورغم دعوة رئيس الحكومة حمادي الجبالي إلى حل الحكومة وتأليف حكومة كفاءات وطنية تشرف على تنظيم الانتخابات في «أسرع وقت ممكن»، لم يهدأ الاحتقان في الشارع التونسي أمس، إذ تواصلت التظاهرات في شوارع المدن التونسية كما تواصلت موجة الغضب التي أدت إلى إحراق عدد كبير من مقار حركة النهضة.
وكان الجبالي دعا، في خطاب وجّهه إلى الشعب، الجميع من دون استثناء إلى تحمّل مسؤولياتهم وتزكية الحكومة، موضحاً أنه لم يشاور أي حزب من السلطة أو المعارضة حين قدم هذا الاقتراح الذي يهدف بحسب قوله إلى إخراج البلاد من المرحلة الانتقالية بسرعة.
احتقان الشارع انعكس على النخبة السياسية أيضاً. فحركة النهضة رفضت الموافقة على اقتراح رئيس الحكومة تأليف حكومة كفاءات، ورأى رئيس كتلتها في المجلس التأسيسي، الصحبي عتيق، أن رئيس الحكومة اتخذ القرار بمفرده ولم يستشر فيه الحركة. وأوضح عتيق أن التنظيم القانوني المؤقت للسلطات العامة في تونس لا يخول الجبالي حق إقالة أعضاء الحكومة (الوزارء) من مناصبهم. وأعلن الناطق باسم المكتب التنفيذي للحركة، عبدالحميد الجلاصي، أن الحركة مع الحوار ومع الوفاق، لكنها ترفض حكومة الكفاءات مبدئياً. كذلك لم تستبعد بعض قيادات الحركة، ومنهم الصحبي عتيق، أن يتخذ مجلس شورى الحركة الذي عقد اجتماعاً استمر حتى ساعة متأخرة من مساء أمس قرارات ضد رئيس الحكومة، فيما سرت أنباء عن إمكان تجميد عضوية الجبالي في النهضة، وهو ما سيكون له وقع كبير على الحركة.
كذلك لم يختلف موقف حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، الشريك في الترويكا، كثيراً عن موقف حركة النهضة. أما حزب التكتل من أجل العمل والحريات، فقد رحّب باقتراح الجبالي وأعلن مساندته له.
وفي مقابل تعنّت ورفض حزبي «الترويكا» الرئيسيين لحكومة الكفاءات، استطاعت مبادرة الجبالي جمع كل أحزاب المعارضة الأساسية بمكوّنيها الرئيسيين الجبهة الشعبية والاتحاد من أجل تونس حولها، وأعلنت مساندتها لاقتراح الجبالي، لكنها لم تنس تقديم شروطها. فالحزب الجمهوري أعلن موافقته على مبادرة الجبالي، لكن الأمينة العامة للحزب مي الجريبي طالبت الجبالي بالاستقالة من حركة النهضة. كذلك أعلن الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي أن مكونات المعارضة ستحدد موقفها من مبادرة الجبالي، لكنها ترفض أن تقود النهضة الحكومة الجديدة. أما الحزب الاشتراكي فقد دعا إلى صياغة وفاق وطني ورسم خارطة طريق باعتماد حكومة كفاءات، ولا مشكلة في أن تكون بقيادة الجبالي. وهو نفس موقف نداء تونس تقريباً، الذي يرى أن الأهم من الحكومة هو الاتفاق على خريطة طريق بين كل الأطراف السياسية، وهو ما يسانده حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وحزب العمل الوطني الديمقراطي.
وإذا كانت مبادرة رئيس الحكومة حمادي الجبالي قد لاقت الكثير من الاستحسان حتى لدى المنظمة النقابية الأقوى، اتحاد الشغل، فإنها ستواجه صعوبات دستورية قد تعيق البحث فيها. فحسب الدستور الصغير الجديد الذي يحدد عمل المؤسسات الدستورية في هذه المرحلة المؤقتة، لا بد أن يقدم رئيس الحكومة استقالة حكومته إلى رئيس الدولة، الذي يمكن أن يعيد تكليفه بتأليف حكومة جديدة لكن بموافقة المجلس التأسيسي الذي تسيطر عليه حركة النهضة مع حليفيها (89 مقعداً من إجمالي 217). ويبدو حسب المعطيات الأولية الظاهرة أن حركة النهضة لم تعد ترغب في ترشيح الجبالي، وبالتالي فلن توافق على أي حكومة لا تكون فيها هي المحدد مع شريكيها.
الآن، عملياً، لا تملك النهضة أغلبية المقاعد بعد انسحاب حزب التكتل الذي ساند مقترح الجبالي الذي يملك بلا شك عدداً من أصوات كتلة حركة النهضة، وبالتالي يمكن أن تحظى حكومته بأغلبية الأصوات في الخارطة الجديدة للتوازنات داخل المجلس التأسيسي حتى لو لم يساندها عدد من نواب النهضة والمؤتمر وكتلة وفاء المنشقة عن كتلة المؤتمر. لكن السؤال المطروح الآن هل سيكلف الرئيس محمد منصف المرزوقي مرة أخرى الجبالي بتأليف حكومة جديدة؟
كل المؤشرات تؤكد أن تونس مقبلة على أزمة سياسية خانقة بسبب رفض حركة النهضة مبادرة الجبالي ورفض ائتلاف المعارضة الذي يتشكل الآن الحوار مع الترويكا من دون التخلي نهائياً عن المسار السياسي الحالي والبحث عن وفاق جديد بين كل الأطراف السياسية للبحث عن حل للأزمة الأمنية والسياسية التي تغرق فيها البلاد.
وإذا كان شكري بلعيد قد ذهب ضحية عملية اغتيال مدبرة، فإن مخاوف السياسيين والنقابيين لم تنته، إذ وصلت أمس رسالة تهديد بالقتل للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي، وكذلك لرئيس اللجنة السياسية للحزب الجمهوري نجيب الشابي.
اغتيال الشهيد شكري بلعيد يبدو أنه سيفجّر أزمات في تونس. فالخلافات السياسية لم تقتصر على الترويكا الحاكمة بل امتدت حتى إلى حركة النهضة التي «انقسمت» عملياً بين شق الجبالي وشق الغنوشي. كذلك ازدادت الأزمة السياسية حدة بعد مطالبة عدد من السياسيين والناشطين بحل المجلس الوطني التأسيسي وإنهاء كل المسار الانتقالي الحالي. ومن بين الذين طالبوا بهذا رئيس الحكومة السابق الباجي قائد السبسي. وقد لاقت دعوته رفضاً كبيراً من أعضاء المجلس. كذلك طالب حزب العريضة الشعبية الذي يتزعمه الهاشمي الحامدي، المقيم في لندن والمنشق عن حركة النهضة، باستقالة الحكومة واختيار رئيس حكومة جديد من خارج حركة النهضة يكون محل توافق بين الجميع، واقترح أحد وزراء الحبيب بورقيبة والوزير في الحكومة السابقة محمد الناصر لرئاستها، كما اقترح الوجه التاريخي للمعارضة التونسية أحمد المستيري لرئاسة الدولة لمرحلة انتقالية ثالثة ونهائية.
وبالتوازي مع هذه التطورات السياسية المتسارعة، تتواصل الاحتجاجات في المدن، وقد تواصل انسحاب قوات الأمن في عدد من المدن واقتحام مقار المحافظات. ويتولى الجيش الوطني الآن في أكثر من مدينة، منها صفاقس العاصمة الاقتصادية ومدينة سيدي بوزيد وكذلك الحزام الحدودي مع الجزائر مثل الكاف وجندوبة، تأمين سلامة المؤسسات العمومية وأمنها، وسط مناخ من الحزن والخوف والأسى يخيم على الشارع التونسي عشية الإضراب العام الذي سيكون الأول بعد الثورة والثاني بعد إضراب ٢٦ كانون الثاني ١٩٧٨ الذي سقطت فيه أرواح بشرية وسال فيه دم النقابيين.