أياً تكن مساوئ الربيع العربي والمتاجرين فيه، يكفي أنّه جرّأ المحكوم على الحاكم. سقطت المقدّسات. وبما أنّ الانتفاضات «مُعدية»، بات الشغل الشاغل للأنظمة «غير المنيعة» أن تحصّن نفسها باللقاحات والعلاجات اللازمة كي لا تهبّ النسائم في حقولها؛ ومن هذه العلاجات ملاحقة الناشطين والسياسيين الذين يتجرّأون على الحاكم والنظام. وفي الأنظمة الخليجية، خصوصاً، كانت التهمة «جاهزة ومعلّبة»، إنّها تهمة «العيب بالذات الأميرية أو السلطانية أو الملكية». وان لم تكن هذه، لوُجدت تهمة العيب بذات «المشايخ»، كي يبقى الصراع بين تيارين: ديني متشدّد، وليبرالي. ويحصن الحاكم، في هذه الحالة، ذاته بأن يكون حكماً لا طرفاً.
وما أن تلفظ «المس بالذات الأميرية» في هذه الأيام تشتدّ الأذهان الى الكويت، حيث يُحاكم العشرات بهذه التهمة، بينهم نواب سابقون. المستغرب أن الإمارة النفطية، قد تكون أكثر دول الخليج ديموقراطية، ورغم ذلك يتعرّض فيها كل من ينتقد الأمير، كاتباً، مغرّداً أو خاطباً، للملاحقة القضائية والغرامة المالية وسجن قد يصل الى 10 سنوات، وذلك بموجب نص المادة 54 من الدستور، على أنّ «الأمير رئيس الدولة، وذاته مصونة لا تمس».
قبل أيام، حُكم على ثلاثة نواب سابقين معارضين كويتيين (فلاح الصواغ وبدر الداهوم وخالد الطاحوس)، بالسجن لمدّة 3 سنوات. زميلهم مسلم البراك لا تزال محاكمته جارية، وتُنسب إليه تُهم مماثلة شأن «مس بالذات الأميرية، والتطاول على مسند الامارة، والطعن بصلاحيات الأمير».
وكان هؤلاء قد ألقوا خطابات أمام جماهير المعارضة انتقدوا خلالها الأمير بشدّة، واعتبرها البعض تطاولاً عليه. التدقيق في فحوى ما قيل يبيّن أنّها كانت انتقادات لعمل الأمير لا لشخصه، من قبل نائب أمّة. لكن في إمارة خليجية يبدو أنّ هذه الانتقادات من أشدّ الآثام. ما قاله البراك في خطبته الشهيرة في ساحة الإرادة وحملت عنوان «كفى عبثاً» متوجّهاً خلالها الى الأمير: «لا نخشى سجنكم ولا مطاعاتكم.. ولن نسمح لك أن تمارس الحكم الفردي»، وعند قول «لن نسمح لك» هبّت الجماهير وراح البراك يردّد معها «لن نسمح لك». كلمات استدعت ملاحقته، بما أنّها جرّأت الشعب على أميره. النائب السابق يقول إنه غير نادم، ولو رجع به الزمن لأعاد الكلام ذاته.
وجملة «لن نسمح لك»، باتت متداولة جداً في الكويت؛ ففي إحدى مباريات كرة القدم لمنتخب الكويت، راحت الجماهير تردّد «لن نسمح لك، لن نسمح لك»، على حدّ قول ناشط كويتي حضر تلك المباراة.
إضافة الى محاكمة النواب السابقين، هناك محاكمات جارية بحق ناشطين متهمين بالتطاول على الأمير في مواقع التواصل الاجتماعية. منذ أسبوع، حُكم على محمد عيد العجمي بالسجن 5 سنوات لأنّه غرّد بما يسيء الى الذات الأميرية. ورفيقه المغرد صقر الحشاش ينتظر دوره في جلسة 7 شباط.
ومنذ ما يقارب الشهر، غُرّم المغرّد راشد الهاجري بكفالة مالية قدرها 5000 دينار بعد التحقيق معه بتهمة «المس بمسند الامارة» بتغريداته. وقبل ذلك، حُكم على لورنس الرشيدي بالسجن لمدّة 10 سنوات بسبب نشره قصائد شعرية على الانترنت انتقد خلالها الأمير ونظام الحكم في الكويت. ودعا الى تظاهرات تطالب بإسقاط النظام على غرار الثورتين المصرية والتونسية.
وبات الشغل الشاغل لوزارة الداخلية الكويتية تعقب مواقع التواصل الاجتماعي لرصد من ينتقد النظام «ويمس الذات الأميرية»، واعتُقل العشرات من المدونين والناشطين الافتراضيين بسبب كلمات كتبوها وغرّدوها واعتُبرت مسيئة للأمير.
وليس بعيداً عن الكويت، وتحديداً في سلطنة عُمان، أيدت محكمة استئناف منذ أيام أحكاماً بالسجن بحق ستة أشخاص لإدانتهم بنشر تعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي مُسيئة للسلطان. والأحكام تتراوح ما بين 12 و18 شهراً مع تغريم كل منهم ألف ريال عماني (2600 دولار).
وأغلظ عقوبات المسّ بالذات الأميرية صدرت في قطر، حيث حكمت محكمة بالسجن مدى الحياة على الشاعر محمد بن الذيب العجمي، بتهمة «التحريض على إطاحة نظام الحكم، وإهانة الأمير»، في «قصيدة الياسمين». وقال الشاعر في قصيدته: «كلنا تونس بوجه النخبة القمعية».
ويعتبر الأمين العام للمنتدى الخليجي لمؤسسات المجتمع المدني، أنور الرشيد، في حديث لـ«الأخبار» أنّ تهمة المساس بالذات الأميرية أو الملكية أو السلطانية، هي نتيجة طبيعية للمطالبات المستمرة من قبل الشباب الخليجي بالتغيير والإصلاح. ويقول إن «الكويت بلغت حدّاً غير مسبوق بتاريخها السياسي في ملاحقة المعارضين والناشطين بتهمة على هذه الشاكلة». ويضيف: «كلّما علت أصوات الحرية، لجأ الحاكم الى مثل هذه التهم».
ويشير الرشيد الى أن المنتدى قد وثّق عشرات الحالات في الكويت والإمارات وسلطنة عُمان، التي تتعلّق بالعيب بالذات الأميرية أو الرئاسية أو السُلطانية. وتطال هذه الاتهامات شخصيات معارضة عبّرت عن رأيها بما يجري في بلادها على مواقع التواصل الاجتماعي أو في أماكن عامة، وفي الأغلب كانت تدعو الى الإصلاحات، لذلك أرادت الحكومات «تهماً جاهزة ومعلّبة ضدّ النشطاء لترهيبهم، فقامت باستخدام العصا الأميرية أو السُلطانية». وقال إنّ هذه التهمة تزايدت في الآونة الأخيرة مع انتفاضة الربيع العربي، حيث وجد الشباب الخليجي خصوصاً، متنفسّاً للتحرّر، فردّت السلطات باتهامات سياسية متنوعة، بينها إهانة الحاكم.

«العيب بالذات المشيخية»

ورغم ما يُثار من تهمة المسّ بالذات الأميرية في دول الخليج، يبدو أنّ المسألة في السعودية مختلفة، ومشكلة «المسّ» تدور حول رجال الدين أكثر من الملك في المجتمع المحافظ، الذي لا يزال يقدّس التقاليد العائلية والقبلية. في الدستور السعودي غير المكتوب، لا يوجد تهمة تحمل هذا المسمى. ويقول المحامي السعودي زيادر دويدار لـ«الأخبار» إن الدستور السعودي هو الشريعة الإسلامية، ولكن هناك ما يسمى «نظام المرافعات الجزائية». وفي هذا النظام لا يوجد شيء اسمه «العيب بالذات الملكية».
ومع ذلك، يضيف «هناك نصوص تشريعية خاصة بالتلفظ بسوء ضدّ ملك أو وزير أو أي شخصية. واذا كانت هذه الألفاظ تمثل طعناً بالذات أو الشرف لهؤلاء الأشخاص، يُلاحق الشخص المعني، وهذا الأمر يخضع لتقدير القاضي نفسه، ويقع ضمن قضايا القدح والذمّ العادية».
وكانت أُثيرت أخيراً قضية المحامي المصري أحمد الجيزاوي الذي ألقت السلطات السعودية القبض عليه بمطار جدّة بتهمة تتعلق بالمخدرات. وأثارت قضيته غضب الشارع المصري، الذي قال إن مواطنه اعتُقل لـ «مسّه بالذات الملكية». ونشطت حملات على «تويتر» و«فايسبوك» والمدونات تبين مظلوميته. وأنشأ ناشطون مصريون على «تويتر» هاشتاغ باسم «طظ في ذاتك الملكية طال عمرك». كما رفعوا لافتات في القاهرة تحمل الشعار نفسه. لكن السلطات السعودية نفت أن تكون أي تهمة من قبيل المس بالذات الملكية قد وجهت للجيزاوي، مؤكدةّ أن قضيته جنائية. وعلّق السفير السعودي في القاهرة ساخراً «لم أسمع عن تهمة تسمى الذات الملكية الا بمصر حينما كنت صغيراً وكانت توجه للملك فاروق».
بدورها، تقول رئيسة الشبكة الليبرالية السعودية الحرة، سعاد الشمري، لـ«الأخبار» إنّ تهمة «المسّ بالذات الملكية» غير موجودة بالسعودية «ونحن نعيب بشدّة على أهلنا بالكويت ما يجري من محاكمات بتُهم مماثلة». وتقول إن «لدينا مسألة لا تقلّ أهمية عن العيب بالذات الملكية وهي التعرّض لرجال الدين والمشايخ، الذين يفتون ويكفّرون كل من لا يتفق مع أهوائهم وآرائهم الرجعية التي لا تمت الى الدين بصلة». وتقرّ «نحن (كليبراليين) تعرّضنا الى رجال الدين، وسوف نظل على انتقادهم الى يوم الدين».
وتستطرد زعيمة الليبراليين السعوديين الى قضية رائف البدوي، الناشط الذي يحاكم بتهمة المس بالذات الإلهية، من خلال الموقع الإلكتروني الذي أنشأه. وتؤكّد أن قضيته سياسية، وأنهم لم يستطيعوا إثبات أي شيء من قبيل هذه التهم ضدّه، موضحةً أن المنتدى الإلكتروني كان يتلقى تعليقات من ناشطين، وأن أحدهم كتب عن نظرية التطور الطبيعية، وهذا أمر لا يمكن لوم رائف بشأنه. وتتطرق أيضاً الى قضية المغرّد السعودي محمد سلامة الذي انتقد رجال الدين واتُهم بالتطاول على النبي. وتشير الى مقولة متداولة على «توتير» وتسخر من تهمة التطاول على رجال الدين، وتُسمى بـ«الذات العريفية»، في إشارة الى رجل الدين السعودي محمد العريفي. وتتابع سعاد القول إنّ «ما فعلناه مع هؤلاء المشايخ أننا أسقطتنا هيبتهم وقدسيتهم. لقد جرّأنا جيل الشباب عليهم. وهذا يكفي».
رغم عدم وجود تهمة «المس بالذات الملكية» بالسعودية، لكن مصادر حقوقية سعودية تقول لـ«الأخبار» إنّ مشكلة عدم وجود تهمة مكتوبة واضحة لا يعني أنّه لا يتم التعرّض للملك أو الأمير، وحين يحصل هذا الأمر تكون المسألة أشدّ تعقيداً وظلماً من بلد يقنّن مسألة التطاول على الحكام، فـ«حين يقدم أحدهم على المس بالذات الملكية بالسعودية، يمكن أن يُعتقل ويسجن دون تحقيق أو محاكمة أو حتى زيارة». ويشير الحقوقي بسُخرية الى أنّه في المجتمع السعودي «هناك 90 في المئة لا يتجرّأون على العيب بالذات الملكية، والـ10 في المئة الباقون، ان تجرأوا، ينكرون التهمة أثناء التحقيق».
وليس بعيداً عن السعودية، يلاحق القانون الأردني كل من يمسّ «الذات الملكية» بالسجن لمدّة تصل الى 3 سنوات. وخلال التظاهرات الأخيرة التي شهدتها المملكة الهاشمية، رُفع شعار «إسقاط النظام» تيمناً بثورات الربيع، فلُوّح بالملاحقة القانونية بتهمة «إهانة الذات الملكية».
وفي المغرب، يُعاقب بالسجن لمدة عام كل من يتعرض للملك بالإساءة في مكان خاص، وثلاثة أعوام إذا كانت إساءته في مكان عام، ولمدّة خمسة أعوام إذا وقعت الإساءة في المكانين معاً. وتشمل الإساءات: «نشر صور كرتونية ساخرة، أو إطلاق إشاعات مغرضة، أو تبديل وتغيير التراتبية المعروفة في شعار: الله، الوطن، الملك».
التطاول لا يقف عند الملوك والأمراء والسلاطين العرب، فللرؤساء قدسيتهم أيضاً. ففي لبنان مثلاً، يتعرض كل من يسيء الى رئيس الجمهورية للملاحقة القانونية من قبل النيابة العامة، التي لها أن تتحرك تلقائياً من دون طلب الرئيس، اذا ما وجدت تطاولاً على رئاسة الجمهورية، وهو ما فعلته منذ فترة، عندما تطاول ناشطون على الرئيس ميشال سليمان، واعتبرته قدحاً وذمّاً، لكن عادت وأُغلقت القضية بعد حملة مدنية اعتبرت ذلك تقييداً لحرية التعبير.
وفي فلسطين، لم يتطاول أنس سعد عواد بلسانه على الرئيس، وانما من خلال الـ«فوتوشوب»، ومع ذلك، صدر بحقه حكم غيابي أول من أمس بتهمة اطالة اللسان على الرئيس محمود عباس.
والتهمة الموجهة لأنس تعود الى العام 2011، حين قام بتركيب صورة من خلال برنامج «فوتوشوب» لعباس وهو يركض وراء الكرة، وكتب تحتها: الرئيس عباس مدريدي. وقال أنس «لا اعتقد أن الصورة فيها إساءة للرئيس، وهي صورة عادية، ولا اعتقد أن هذه القرار سببه الصورة»، موضحاً أنه تم اعتقاله في 2011، لمدة شهرين وتم التحقيق معه في قضايا أمنية لها علاقة بحركة «حماس» ولم يوجه له أي سؤال خلال التحقيق عن الصورة. لكن عباس، قال إنه سيعفو عن أنس، وإنه لم يكن على علم بأمر المحاكمة، والا لما كان قد سمح بها.



تهمة عالميّة

المسّ بالذات الملكية أو الأميرية أو السلطانية أو حتى الرئاسية، منتشرة في العديد من دول العالم. لعلّ أشدّها من حيث العقوبة هي تايلاند، التي ينص دستورها على عقوبة تصل الى 15 عاماً لكل من يتطاول على «الذات الملكية»، وهو ما ناله سوميوت بروكساكاسيمسوك، رئيس تحرير مجلة «فويس أوف تاكسين»، الشهر الماضي، بتهمة نشر مقالات تحتوي على إساءة بحق الملك، بوميبون أدولياديج. وهذه الاساءة وردت في مقالتين للمجلة انتقدتا دور شخصية خيالية يُقصد بها الملك. وفي 2005، حكمت محكمة في وارسو بغرامة مالية ضد ناشر صحيفة أهان بابا الفاتيكان. وفي موسكو، سُجن وغُرّم ناشط تطاول على الرئيس فلاديمير بوتين. وفي هولندا، لا يُعاقب «المُهين» بالسجن، وانما يُغرّم مالياً، وهكذا غُرّم بـ 400 يورو مواطن وصف الملكة بالعاهرة. كما توجد في القانون الإسباني عقوبة تصل الى السجن لمدة عامين للمسيء الى الذات الملكية. مع ذلك، هناك بعض الملكيات التي تحوي دساتيرها تهمة مماثلة لكن نادراً ما نفّذتها، كالدانمارك مثلاً. اللافت أنّ الدستور الهندي ينص أيضاً على عقوبة تصل إلى السجن لمدة 7 سنوات، إضافة الى الغرامة، لكل من «نوى أو سعى إلى تهديد أو إهانة رئيس الجمهورية بأية صورة من الصور».