دخلت الأم بابنتها الى الطوارئ، فلاحظ فريق الاسعاف أنّها تتحدث باللهجة السورية، وسريعاً وقبل معاينة الطفلة بادر أحدهم الى القول «إذا كنت نازحة من سوريا بدك تدفعي مقابل العلاج». ردت الأم «بدفع بس شوفوا البنت شو مالها».تقدم طبيب لفحص الطفلة بالطريقة التالية كما تصف الأم «قاس حرارتها ويا دوب سمع دقات قلبها. ما تحمل معو الفحص دقيقة» مع العلم ان قياس درجة الحرارة يتطلب 3 دقائق على الاقل، بعدما انتهى الطبيب التفت الى الأم وقال «شو بدك نعطي البنت للحساسية؟» فأجابته الأم «متل ما شايف البنت مقروصة من حشرة وعندها تحسس، يعني المفروض تعطيها شي اسعافي للتحسس، شو انا الدكتورة؟».

حقن الطبيب الطفلة بمادة ضد الحساسية. خلال هذا الوقت كانت الأم تقف أمام شباك المحاسب تخرج من حقيبتها جميع المال الذي كانت تخبئه لمصروف الثلاثة أيام القادمة، عشرة آلاف، ثم أخرجت خمسة آلاف فراطة، المحاسب يطالب الأم ببقية المبلغ «بعد خمسة آلاف».. الأم تحاول جاهدة أن تصل بالمبلغ الى الرقم المطلوب، تخرج آخر ما تبقى معها: 3 أوراق فئة الألف، وقطعتين من فئة 500، واربع قطع فئة 250 ليرة.
في الصباح خرجت الأم لتجلب الدواء لطفلتها بعدما استدانت بعض المال لفاتورتها الجديدة.
دخلت الى أقرب صيدلية، لم يكن الموضوع صعبا عليها هذه المرة للبحث عن ثمن الدواء، أخرجت من جيبها ورقة من فئة العشرين ألفاً وناولتها للصيدلي بعدما أخذت الدواء منه، نظرت الى الدواء وسريعا ما لاحظت عبارة «الدواء مجاني» على العلب، فسألته «كيف بدك حق نموذج طبي غير مخصص للبيع؟»! فأجابها «إذا ما عاجبك روحي عند حدا غيري». تناولت الأم الدواء، وخرجت مسرعة الى طفلتها وهي تتمتم «الله يلعن ابو الّلجأه..».
هذه القصة دفعتني إلى زيارة عدد من عائلات عين الحلوة للتأكد من بيع الأدوية غير المخصصة للبيع، فأكدت أفراد العائلات التي زرتها انهم يضطّرون لشرائها لأنها تباع بسعر أقل مما هو في السوق «الأدوية هون في لبنان نار يا خالتي، على الأقل منشتريها بنص السعر».
أبو خالد (فلسطيني لبناني) قطع الحديث قائلاُ: «تجارة الأدوية هنا كتجارة السلاح، والمخدرات، وليس أمامنا خيارات كثيرة. والمسألة لا تتعلق بالأدوية فقط، بل بكل مسألة العلاج، وعلى فكرة يا أستاذ، هذا الموضوع لا يعاني منه فقط الفلسطيني، بل اللبناني ايضا رغم وجود تفاوت بالموضوع الى حد ما». وبما ان «الحديث بيجر حديث»، تقول أم حسين، «منذ فترة أصيب ابن أختي رحمة الله عليه بحادث سيارة وبقي في المشفى لمدة يومين بعدها وافته المنية، وعندما أردنا إخراجه من المشفى طلبوا 7 مليون ليرة! من وين بدنا ندفعهم يا خالتي؟ قلنالهم خلوه عندكم بالبراد، رغم انو اكرام الميت دفنه يا خالتي بس شو بدنا نساوي..».
بعد أن أنهيتُ حديثاً كان يمكن أن يستمر أياماً وأياماً، حاولت أن أتوجه الى أحد المسؤولين في منظمة التحرير أو حتى أحد المسؤولين في التيارات الإسلامية الكثيرة المنتشرة في المخيم، لكنّي تراجعت في اللحظة الأخيرة عندما تبادرت الى ذهني «سخافة» هذه المشكلة أمام المشكلات الكثيرة، والكبيرة التي يعاني منها أبناء المخيم.
«أدوية غير مخصصة للبيع، أحسن من بلاها» هكذا حدثت نفسي.