لا يطلُّ أحدٌ على هذه الدنيا وينتقي اسمه ليطبعه على أوراقه الثبوتية. لا يستطيع اختيار أرضٍ لتكون مسقط رأسه أو وطنه. في البحرين، أصبحت فكرة الإنجاب مجازفة كبيرة. قد تقضي بملاحقة الطفل أو اعتقاله، وفي أحسن الأحوال تجريده من جنسيته حتى قبل أن يولد. فاطمة وعلي ورقية ويوسف وغيرهم من أطفال البحرين لم يسعهم صغر سنّهم على فهم صعوبات سيواجهونها غداً. ورغم عقولهم الصغيرة، التي لا تفقه شيئاً من السياسة ومتاعبها، إلا أن براءتهم لم تعفهم من دفع جنسيتهم ثمن كيدها. إذ تعيش أكثر من مئتي عائلة في البحرين أزمةً حقيقية. تدرك أن أطفالها لن يتمتعوا بحقوقهم كأقرانهم في الوطن، لأنهم ببساطة يحملون اسمهم المرتبط بالمطالبة بالديموقراطية والتغيير، ورفض تقديم الطاعة والولاء للحاكم.
فـ«إسقاط الجنسيات» بات سلاحاً مشروعاً بيد النظام الملكي البحريني، منذ بدء الاحتجاجات في 2011. فكلّما سمعت السلطات «الملكية» صوتاً منادياً بالتغيير، وشعرت بحراك يهز عرشها، ضغطت على زنادها. وجرّدت العشرات من هويتهم.
عام 2011، جرّدت السلطات 52 مواطناً من جنسياتهم بتهمة «تهديد الأمن القومي». اتخذت المملكة الإجراء عينه بحق 31 آخرين بتهمة «الأضرار بأمن الدولة»، بينهم محامون وناشطون. وذكرت السلطات في بيانها أنه «استناداً إلى قانون الجنسية، الذي يجيز إسقاطها عمن يتمتع بها، إذا تسبب في الإضرار بأمن الدولة، فقد تم إسقاط الجنسية البحرينية عن 31 ناشطاً». وكان من بين هؤلاء النائبان السابقان عن جمعية «الوفاق» جواد وجلال فيروز.
نزعت المملكة جنسية مئات خلّفوا وراءهم أطفالاً بلا وثيقة تعرّف عنهم

كذلك، فإن من بين المسحوبة جنسياتهم من يعيش خارج البحرين لم يُسمح لهم بتقديم أي طعن. فما إن صدر القرار حتى أُزيلت أسماء المعنيين عن السجلات، كأنّها لم تكن يوماً. إلا أن الضغوط الدولية دفعت بالحكومة إلى السماح بالطعن بعد أشهر عدّة من الحكم.
وفي تموز 2013، عدّلت الحكومة قوانين «مكافحة الإرهاب»، لتبدأ حملةً عشوائية جديدة لإسقاط الجنسية سُحبت من 72 مواطناً جنسيتهم. وأعلنت وزارة الخارجية في مرسوم «ملكي» أن «البحرينيين الذين أسقط الملك جنسيتهم قاموا بأفعال تسببت في الإضرار بمصالح المملكة، والتصرف بما يناقض واجب الولاء لها».
ثم في آب 2014، أُسقطت الجنسية عن 9 آخرين، بتهمة «وجود علاقات مع ايران»، تبعها إسقاط جنسية 9 آخرين، أيضاً، في أيلول، من العام نفسه، وذلك بتهمة «تهريب السلاح» إلى البلاد.
ولم تتوقف الحكومة عند هذا الحد، بل عمدت إلى تعديل قوانين الجنسية في حزيران 2014، لتمنح وزارة الداخلية سلطة أكبر في إسقاط جنسية الذين ينقضون «واجب الولاء للمملكة». وبموجب ذلك، يمكن لوزير الداخلية سحب الجنسية من المواطنين الذين حصلوا على جنسية أخرى، ومن أي شخص متجنّس، يقيم خارج البلاد لأكثر من خمس سنوات.
ونتيجةً لسياساتها القمعية، تعرضت الحكومة البحرينية لحملة دولية واسعة نددت بإجراءاتها التعسفية، المتمثلة بإسقاط الجنسية، والتي تعتبر حقّاً مشروعاً من حقوق الفرد، حيث نصّت المادة 15 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» على أنه «لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسّفاً أو إنكار حقه في تغييرها».
كما انتقدت «منظمة العفو الدولية» هذه الإجراءات، وبيّنت فيها أن «إسقاط الجنسية عن أولئك الشخصيات، هو قرار يبدو أنه اتُّخذ بسبب الآراء السياسية للضحايا»، في حين أدانت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، نظام العدالة في البحرين. ورأى مدير قسم الشرق الأوسط في المنظمة، جو ستورك، أن «مشكلة البحرين ليست في عدم العمل بنظام العدالة، وإنّما بإتقان العمل بنظام الظلم».
وعلى قاعدة «جردوهم من هويتهم قبل أن يتكاثروا»، نجحت المملكة في نزع جنسية مئات المواطنين مخلّفين وراءهم أطفالاً بلا وثيقة تعرّف عنهم. هذا بمعزل عن مئات الأطفال الآخرين المعتقلين السياسيين، والذين يعيشون في البلاد من دون وثيقة أو سجل، لأن آباءهم قابعون خلف القضبان.
سارة، ابنة الأمين العام لجمعية «الوفاق الوطني»، الشيخ علي سلمان، والتي اعتقل والدها ولما يمض على ولادتها سوى شهر فقط، أطفأت منذ مدّة شمعة عامها الأول من دون جنسية تعرّف عنها، كحال الكثيرين من أقرانها، الذين لا يحملون صفة قانونية في البلاد، الأمر الذي يحرمهم من مزايا الرعاية الصحية، ومنح التوكيل العام أو البحث عن عمل حينما يكبرون.
قد لا يتأثر هؤلاء الأطفال اليوم كثيراً. لكن بعد عقدٍ أو اثنين حينما يسألهم أحد عناصر القوى الأمنية البحرينية، بلسان غير عربي، على الأرجح، عن أوراق ثبوتيتهم، لن تشفع لهم لهجتهم ولا ثقافتهم، ولا أجدادهم لإثبات أنهم «بحارنة» أبّاً عن جد. يومها، سيكون جيل في البحرين متعطشاً لمحاسبة نظام حكم عليه بما حكم، ضارباً عرض الحائط بالقوانين والتشريعات الدستورية.