تونس | بعد نحو 79 عاماً من تأسيسه، عاد «الحزب الحر الدستوري» الجديد في تونس الى مسقط رأسه ليحتفل بيوم ولادته في 2 آذار من عام 1934. وأشرف زعيم حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي، أول من أمس، على اجتماع شعبي حاشد في مدينة قصر هلال التي شهدت تأسيس الحزب الذي قاد معركة الاستقلال بزعامة الحبيب بورقيبة. أراد قائد السبسي من خلال إشرافه الشخصي على هذه الذكرى توجيه رسالة الى الحكام الجدد، مفادها أن الحركة الدستورية لا تزال قوية ومتجذرة في أعماق الشعب، وأن إقصاءها غير ممكن. كذلك أراد أن يوجه رسالة أخرى الى الدستوريين مفادها أنهم لا يمكن أن يحققوا حضوراً ناجعاً يمكن أن يقلب المعادلات السياسية خارج الحزب الذي أسّسه هو قبل ثمانية شهور «نداء تونس».
فبعد عامين من قيام الثورة وسقوط النظام وحل حزبهم الذي حكم البلاد منذ ١٩٥٦ من دون منافس الى حين فرار الرئيس بن علي، يسعى الدستوريون المعروفون في الشارع التونسي باسمي «الدساترة» و«التجمعيون» الى جمع صفوفهم من جديد في حزب واحد من أجل أن يكون لهم حضور في المشهد السياسي.
لم يكن أحد يتصور قبل عامين أن ينتهي الدستوريون الى ما انتهوا اليه من تشتت وانعدام فاعلية منذ أن سقط النظام السابق، إذ خرجت تظاهرات في كل المدن التونسية مطالبة بحل الحزب الذي حكم البلاد في غياب الديموقراطية، رافعين الشعار الشهير الذي رفعته أجيال من التونسيين «يسقط حزب الدستور... يسقط جلاد الشعب».
وفي غمرة الغضب، نسيت جموع التونسيين أن الدستوريين هم الذين قادوا معركة التحرير وبناء الدولة، وأن الحبيب بورقيبة ورفاقه هم الذين حرّروا المرأة ونشروا التعليم والصحة، وجعلوا من تونس بلداً قريباً الى أوروبا فيه طبقة وسطى قوية وفيه أقل نسبة من الأميين في العالم العربي. لكن سنوات بن علي وما رافقها من فساد وغياب الديموقراطية والتضييق على المعارضين وتحكّم عائلات الأصهار والأقارب في مفاصل الاقتصاد، وارتفاع منسوب اليأس وبطالة أصحاب الشهادات العليا وخنق الإعلام، كل هذه المعطيات جعلت الشعب الغاضب لا يرى في «الدساترة» إلا «شياطين» مسؤولين عن الخراب الذي حل بالبلاد.
فالحزب الحر الدستوري الجديد، الذي تأسس بزعامة بورقيبة ومحمود الماطري وغيرهما من الشباب، خرج من رحم الحزب الحر الدستوري الذي أسّسه الشيخ عبدالعزيز الثعالبي مع مجموعة من متخرّجي الجامع الأعظم (الزيتونة) في آذار ١٩٢٠ بعد صدور كتاب الثعالبي في باريس «تونس الشهيدة».
وقد طالب الحزب بالفصل بين السلطات وإجبارية التعليم وإرساء نظام دستوري وضمان الحريات والمساواة، لكنه لم يطرح قضية الاستقلال بجدية، ما دفع بالشبان الذين التحقوا به بعد الثلاثينيات، وخاصة بعد معركة التجنيس والمؤتمر، الى تأسيس حزب جديد في اجتماع دار عياد في مدينة قصر هلال.
بعد الاستقلال، نشب خلاف بين زعيمي الحزب صالح بن يوسف المنحاز الى مصر بقيادة جمال عبدالناصر، وبورقيبة المنحاز الى فرنسا. وقد تنازع الزعيمان على قيادة الحزب، الا أن بورقيبة نجح في طرد بن يوسف الذي غادر تونس للعيش في المنفى وتمسك أنصاره بالكفاح المسلح في إطار دعم الثورة الجزائرية وخروج آخر جندي فرنسي من تونس.
وللتخلص من معارضة بن يوسف تم اغتياله في جنيف سنة ١٩٦١.
وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة سنة ١٩٦٢، أمسك بورقيبة بالبلاد بيد من حديد، ومنع الأحزاب السياسية وحوّل الجمعيات والمنظمات الى فروع تابعة للحزب تحت شعار «الوحدة الوطنية»، وأصبح كل صوت معارض ضد «المصلحة الوطنية». وبداية سنة ١٩٦٨، بعد هزيمة حزيران 1967، بدأت المحاكمات السياسية، وكانت البداية باليسار والقوميين ناصريين وبعثيين.
وفي الثمانينيات، كان الحزب الذي قاد معركة الاستقلال يتحول تدريجاً الى جهاز إداري بلا روح، وفشلت كل محاولات تجذير الممارسة الديموقراطية فيه، التي قادها أحمد المستيري والحبيب بولعراس وقائد السبسي وغيرهم.
وكان من الطبيعي أن ينتهي النظام الى الترهل والتآكل في غياب الديموقراطية، فجاء انقلاب ٧ تشرين الثاني ١٩٨٧ الذي سمّاه بن علي «التغيير» لإنقاذ النظام والحزب.
في بيانه لم يذكر بن علي اسم الحزب. واعتبر ذلك نية للتخلص منه وتأسيس حزب آخر. لكن يبدو أن قيادات الحزب آنذاك، المقرّبين من بن علي، مثل الهادي البكوش، نصحوه بعدم الإقبال على هذه المغامرة، فاستبدل بن علي اسم الحزب ليصبح «التجمع الدستوري الديموقراطي»، والتحقت به في السنوات الأولى جموع من النخب التونسية من اليسار والقوميين والبعثيين، لكنهم سريعاً ما غادروه لغياب الممارسة الديموقراطية.
ولقي التجمع المصير نفسه لسلفه الحزب الحر الدستوري، إذ تحول الى جهاز للتعبئة وإقصاء المعارضين، خاصة في الجهات الداخلية. وعندما انطلقت الاحتجاجات الشعبية في ١٧ كانون الاول ٢٠١٠، لم تجد قيادة الحزب أحداً يساندها في الشارع، وتحول «التجمعيون» بعد الثورة الى مواطنين مغضوب عليهم.
بعد صعود الترويكا الى الحكم والفشل الذريع لليسار الذي كان وراء حل التجمع ومنع الدساترة من الترشح في الانتخابات، خفّت نبرة استهدافهم، بل سارعت أغلب الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية الى رفض قانون «تحصين الثورة» الذي يهدف الى إبعاد الدساترة عن الانتخابات مرة أخرى. كذلك خفّت موجة «شيطنة» النظام السابق بعد فشل الترويكا في الحكم، لكن هاجس التجمعيين والدساترة بقي توحيد صفوفهم في حزب واحد.
ففي ذكرى تأسيس حزبهم، حسب ما علمت «الأخبار»، يسعى عدد من قيادات الدساترة الى إعلان ولادة حزب دستوري موحّد يجمع بين كل الأحزاب الدستورية، من أبرزها حزب المبادرة بقيادة كمال مرجان (آخر وزير خارجية في عهد بن علي)، وحزب الوطن الحر بقيادة محمد جغام مدير ديوان بن علي حتى عام ٢٠٠٠، وحزب المستقبل بقيادة الصحبي البصلي سفير تونس لدى الصين حتى ١٤ كانون الثاني ٢٠١١، وأحزاب صغيرة أخرى.
لكن هذه الخطوة لم تلق إجماعاً كبيراً بين الدساترة الذين يرى شق كبير منهم أن إنقاذ تونس يمر عبر دعم حزب نداء تونس بزعامة الابن الروحي للحبيب بورقيبة الباجي قائد السبسي، ويرون أن دعم نداء تونس الذي يضم يساريين ونقابيين وديموقراطيين بشكل عام هو الحل في هذه المرحلة التاريخية.
فهل سيكون نداء تونس هو الباب الذي سيعيد الدساترة الى موقع القرار؟ أم ان التحالف الذي اختاره قائد السبسي مع جزء كبير من اليسار سيدفع الدساترة الى تأسيس حزب آخر ومنافسة نداء تونس بدل التحالف معه، وربما حتى الاقتراب من حركة النهضة التي قد تجد فيهم حلاً لضرب نداء تونس؟ الأكيد أن الرمال التونسية لا تزال متحركة ولم تبُح بكل أسرارها.