القاهرة | حال غير مسبوق من تمرد ضباط وعناصر الأمن المركزي عاشته مصر خلال الأيام القليلة الماضية، بلغت ذروته أمس حيث لم تكن تمر ساعة إلا ويسمع عن انضمام أقسام جديدة للائحة العصيان. فغدت عشرات الأقسام مقفلة في كافة أنحاء البلاد، بعدما شمل العصيان 12 محافظة مصرية. «القاهرة، الإسكندرية، بورسعيد، الإسماعيلية، الفيوم، بني سويف، الشرقية، المنصورة، البحيرة، طنطا، وسوهاج»، جميعها شهدت حالات تمرد وتعطل الاقسام فيها من العمل، فضلاً عن رفض عناصر الأمن المركزي القيام بالمهام المكلفين بها، بما في ذلك مؤازرة اقرانهم في بورسعيد. وهي خطوة لجأوا إليها للتعبير عن عدم قدرتهم على التحمل أكثر، رافعين سلسلة من المطالب لخصتها «حركة الضباط الاحرار»، التي أعلنت أن هدفها الأساسي التصدي لممارسات أخونة وزارة الداخلية. وانطلقت دعوتها كما النار في الهشيم، بعدما بثت بيانات تفيد بضرورة إطاحة الوزير الحالي محمد ابراهيم، المتهم بأخونة الوزارة، والذي تتردد حالياً أنباء عن إقالته بعد امهال الضباط السلطة حتى اليوم لاقالته. لكن مطالب الأمن المركزي لا تتوقف عند هذا الحد، اذ يطالبون باعتماد السلطات حلاً سياسياً في معالجة الاحتجاجات الشعبية بدلاً من الحل الأمني، إلى جانب تحديث تسليحهم وإقرار تشريعات تحميهم خلال المواجهات التي يخوضونها في الشارع ضد من سموهم «البلطجية».
الخبير محمود قطري، اختصر ما يجري بأنه «تخبط ورفض وثورة جديدة»، موضحاً أن الأزمة التي تعيشها وزارة الداخلية منذ الثورة تفاعلت بعد تولي الوزير الحالي محمد إبراهيم مهامه في الداخلية على أنقاض «إهانة واضحة» للوزير السابق أحمد جمال الدين، الذي أقيل من منصبه بسبب رفض ممارسات أخونة الوزارة ورفض قيادات وضباط وجنود الأمن المركزي التصدي إلى المتظاهرين فى محيط قصر الاتحادية.
لكن قطري يوضح أن جذور الأزمة تعود إلى الأشهر الأولى التي تلت ثورة «25 يناير» وبشكل أدق إلى «عملية التطهير التي نفذت بحق قيادات وزارة الداخلية، سواء الظالمون منهم أو الأبرياء، في عهد وزير الداخلية السابق منصور العيسوي» الذي عين أول وزير للداخلية بعد الثورة مباشرة. وفيما أوضح قطري أن كبش الفداء كان «50 عميداً مقالاً من أصل 55 عميداً كانوا يستعدون لنيل ترقية قبيل الاحتفالات بثورة 25 يناير بأيام قليلة»، لفت قطري إلى أن العملية «نفذت بدم بارد من دون مراعاة الأجواء التي رافقت اقتحام السجون والفوضى التي دبت في المكان». وتحدث عن «الضرر النفسي الذي لاقاه الضابط والجنود عقب انهيار هذه المؤسسة الأمنية، التى اشتهرت بالبطش والضرب بيد من حديد».
وضع ازداد سوءاً في عهد الوزير السابق محمد إبراهيم (يحمل نفس اسم الوزير الحالي). اذ يرى الخبير الأمني طارق الخضري أن إبراهيم فشل في هيكلة وزارة الداخلية، اذ إن النظرية التي استخدمها يومها تمثلت في استمرار حالة الترهل الأمني لما بعد الانتخابات. وهي نظرية كانت غير مجدية مع المواطنين أو الضباط. فمن جهة كان الضباط يشعرون بضياع هيبتهم، ومن جهةٍ ثانية لم يكن لدى المواطنين ثقة بالأجهزة الأمنية. في حينه أيضاً، لعبت كل القوى السياسية على أوتار الغضب والثأر الشخصي حيال التعاملات الوحشية التي كان يمارسها من استغلوا مناصبهم الأمنية.
لكن الرؤية الدرامية الأكثر إيلاماً، من وجه نظر الصحافي المتخصص في الملفات الأمنية، حسن الهتهوت، كانت عندما انُتزع وزير الداخلية السابق جمال الدين من منصبه. ولم تكن المعركة الشهيرة التي حصلت بين أحد معسكرات القوات المسلحة وبين ضباط قسم القاهرة الجديدة، عندما اوقف كمين لضباط الشرطة سيارة تتبع ضباط في القوات المسلحة في شهر تشرين الثاني الماضي، الا بداية تبلور أزمة التخلص من جمال الدين، وخصوصاً بعدما نجح الأخير مع وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في احتواء الأزمة. وهي خطوة وفقاً للهتهوت «أربكت حسابات جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تريد إحداث فرقة بين المؤسستين «الأمنية والعسكرية» بهدف تسكين تابعين وموالين لجماعة الإخوان المسلمين يلتزمون بتنفيذ أجندة قبول طلبة في كلية الشرطة والكلية الحربية، لظهور دفعات ترفع راية الجماعة داخل المؤسستين».
ووفقاً للهتهوت، فإن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت «لاءات» جمال الدين في مواجة محمد مرسي. هذه اللاءات «تمثلت في رفض الاستعانة بكوادر مسلحة من خارج وزارة الداخلية، ورفضه إملاءات مكتب الإرشاد في هيكلة الوزارة، فضلاً عن تماسك علاقته مع القائد العام للقوات المسلحة، ورفضه لممارسات البلطجة التي مارسها حازم صلاح أبو إسماعيل». يضاف إلى كل ذلك وفقاً للهتهوت «اعتراف جمال الدين الصريح في أحد الاجتماعات الأمنية بأن التسليح الخاص بجماعة الإخوان المسلمين خطر يوشك على أن يحدث كارثة في مصر ويجب التصدي له».
كل هذه العوامل عجلت باقالة جمال الدين مقابل الإتيان بالوزير الحالي محمد ابراهيم وهو «ضعيف إدراياً» وكل مؤهلاته تنحصر فى قرابته القوية بأحد أعضاء مكتب الإرشاد وصداقة حميمة تجمع بينه وبين مرسي، وفقاً لما يؤكده مصدر أمني لـ«الأخبار». ويستشهد المصدر الأمني بما قاله أحمد المغير، عضو اللجنة الإلكترونية لجماعة الإخوان المسلمين، والمعروف «برجل المهندس خيرت الشاطر نائب مرشد الإخوان»، الذي قال بعد ساعات من مجزرة بورسعيد قبل شهرين إن «دور قوات الشرطة والأمن من إمبارح مشرف جداً، واللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية قدم أوراق اعتماده».
ظروف كانت كفيلة بأن تمهد لانتفاضة الضباط بعدها بعدة أسابيع. وهي انتفاضة تظهرت في أكثر من حادثة، أبرزها وفقاً للمصدر الأمني «الإهانات المتتالية للوزير الحالي التي ظهرت عند تشييع جثامين الضباط الذين لقوا حتفهم تباعاً على مدار الشهرين الماضيين، بسبب تساهله وتنفيذه لأجندة مكتب الإرشاد وقبوله قيام أمين حزب الحرية والعدالة محمد البلتاجي بمهمة هيكلة وزارة الداخلية، ليتمكن الأخير من تسكين القيادات الموالية للجماعة في مفاصل الوزارة».
وإن كانت الحكومة تتجاهل مطلب اقالة وزير الداخلية، فإن رئيس وزرائها هشام قنديل حاول أمس احتواء غضب الضباط بتأكيده أمام المحافظين دعم الشرطة وأن «القانون يوفر للقائمين على حماية المنشآت العامة والخاصة حق الدفاع الشرعي عن النفس».
لكن هذه التصريحات من غير المتوقع أن تفضي إلى احتواء غضب الضباط بل على العكس من ذلك، فان غضبهم مرجح للتصاعد بعدما كشف المستشار عمر الشريف، مساعد وزير العدل أن الوزارة تعد حالياً مشروع قانون بشأن إنشاء شركات حراسة خاصة. تبرير الشريف للخطوة بمساعدة وزارة الداخلية في توفير التأمين اللازم لبعض الشخصيات أو المنشآت المهمة، فسره آخرون على أنه يفتح المجال أمام تشكيل ميليشيات لجماعة الإخوان بغطاء قانوني.