لقد خيبت جولة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، آمال الكثيرين ممن تطلعوا وروجوا لإمكانية زحزحة الإدارة الاميركية عن مواقفها تجاه سوريا، والقبول بتسوية، قابلة للتطبيق عملياً. كما خيبت آمال آخرين، تطلعوا الى مقاربة أكثر حزماً وشدّة، بينها تسليح المعارضة المسلحة السورية، على أمل إسقاط النظام. لكن المؤكّد أن الزيارة كشفت ثبات الإدارة على مقاربتها: لا للتدخل العسكري أو ما يفضي اليه، والامتناع عما يؤدي الى فوضى غير محسوبة. وفي المقابل، نعم للحل السياسي، على أن يؤدي الى اسقاط الرئيس السوري بشار الأسد وبرضاه، أي «انتقال سلس للسلطة». أما الحلول الأخرى، تسوية أو غيرها، فلا مكان لها في التوجهات الأميركية.
يبحث البعض في مواقف الأطراف المتدخّلة في سوريا، دون الموقف الأميركي، باعتبارها مؤشراً على وجهة المقاربة الخارجية، إن باتجاه التسوية او باتجاهات أخرى. تصريح هنا وموقف هناك، لدول إقليمية مؤيدة أو تكنّ العداء للنظام في سوريا، تشكّل دليلاً أو مؤشراً لما هو آت، وتكشف قرب الحسم والتسوية أو بعدهما. لكن خطأ هذه المقاربة يكمن في أنها تهمل الضابطة الأميركية، محرّك ومنشأ أي توجه حقيقي فعلي؛ فإن كانت واشنطن تسمح بإطلاق المواقف المتطرفة، فهذا لا يعني أنّها تتبناها.
الحلّ في سوريا، عسكرياً أو تسووياً، متعذّر ضمن موازين القوى الموجودة حالياً في الساحة السورية. ما لدى طرفي القتال، وحلفائهم وأشباه الحلفاء، غير قادر على الحسم الميداني. قلب المعادلة وتغيير موازين القوى، باتجاه الحسم العسكري، يبقى في يد الولايات المتحدة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر حسم أميركي من خلال حلفائها. واشنطن هي الجهة المقررة، الأولى والأخيرة، لأي تحرك حليف في جوار سوريا القريب أو البعيد، بما يشمل الاعتدال العربي، أو الغرب الأوروبي.
الادارة الأميركية تبقى هي الجهة التي تقرّر مدى وحجم تدخل الآخرين، سواء كان التدخل مباشراً أو بواسطة الجماعات المسلّحة الناشطة في الساحة السورية. وأميركا، هي التي ترسم حدود التدخل الخارجي، عسكرياً وسياسياً ولوجستياً، وتحدّد مداه وحجمه ومحظوراته وما هو مسموح أو ممنوع فعله، مهما كان موقف الحلفاء، مندفعاً كان أو مكبوحاً.
الا أنّ الضابطة الأميركية واضحة: أن تحقق الولايات المتحدة مكاسب وفوائد من الحرب الدائرة في سوريا، ومن دون أثمان حقيقية مدفوعة من قبلها، مع منسوب منخفض من المخاطرة؛ هذا الواقع محقّق حتى من دون حسم عسكري للمعارضة، سواء بإشغال النظام السوري وحلفائه بالدفاع عن أنفسهم، أو بالاحتراب البيني للأعداء في الساحة السورية. بالتالي، أي مسعى أو جهد يُقدم عليه الحلفاء، ومن شأنه أن يقلب ميزان القوى بشكل دراماتيكي، قد يؤدي الى نتائج غير محسوبة، بما يشمل خسارة أميركا لمكتسباتها الحالية، إضافة الى المخاطرة في عدم القدرة على احتواء الوضع الميداني وتداعياته، في مرحلة ما بعد الحسم العسكري.
لا يعني ذلك أنّ الولايات المتحدة عاجزة وغير قادرة. القدرة المادية موجودة، لكن ارادة تفعيل هذه القدرة غير موجودة، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر الحلفاء. بالطبع لا يعود ذلك الى أن روسيا والصين يقفان معارضين للتدخل الأميركي، أو نتيجة لعجز أميركي عن استصدار قرار من مجلس الأمن يسمح بالتدخل، أو أن الادارة الأميركية الحالية لا تحبذ الحروب وتسعى الى تجنبها. المعطيات التالية توضح الموقف الأميركي من التدخل أو عدمه.
أولاً، لا تنظر الولايات المتحدة الى سوريا باعتبارها ساحة منعزلة عما يحيط بها. العين الأميركية تبقى شاخصة على الحرب الأوسع الدائرة في المنطقة، ما بين محورين أساسيين، وربما أكثر، حتى وإن خيضت في الدائرة الأصغر، في الأرض السورية. من هنا، لا يمكن فصل نتيجة الحرب في سوريا، أو ما يمكن أن تفضي اليه من فعل أو عدم فعل، عن تداعياته المقدرة على المنطقة والتوجهات والمصالح الأميركية فيها. كل فعل أو عدم فعل، محسوب جيداً، بما يمكن أن يرتد على حرب المحورين في المنطقة، ودونه سيكون خارج الحسابات الأميركية. ثانياً، الولايات المتحدة راضية حتى الآن، من النتائج المحققة في سوريا، حتى مع تعذّر الحل العسكري أو التسووي، المفضي الى إسقاط الرئيس السوري. يكفي أن الحرب تحقق لواشنطن تحييداً فعلياً للنظام ودفعه مع حلفائه الى موقع الدفاع بدلاً من موقع الهجوم. ولا يمكن للإدارة الأميركية أن تتخلى عن هذه المكاسب من أجل تسوية تُبقي الرئيس الأسد على رأس النظام، اذ من شأن تسوية كهذه أن تُفقد واشنطن مكاسبها المحققة، من جهة. ومن جهة ثانية، قد تؤسس لإمكانيات إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وإعادة تعزيز المحور المعادي لها.
الحد الأدنى المقبول أميركيا، هو تسوية تُبقي على نفس المكاسب المحققة حالياً، ضدّ المحور المعادي، مع إمكان تحقيق المزيد. الا أن تسوية كهذه غير منظورة في حلّ لا يتضمن رحيل الأسد عن السلطة، واستبداله بشخص أو جهة، قادرين فعلياً على ضبط الوضع الداخلي، أقلّه باتجاه إخراج فعلي لسوريا من محور المقاومة، والتحاقها بالمحور الأميركي.
ثالثاً، ان مستوى وحجم وأخطار الحرب الدائرة في سوريا، على ما هي عليه، لا تكلّف الولايات المتحدة أي أثمان، الا من الناحية المعنوية والشكوى التي تتلقاها من عدد من الحلفاء في المنطقة. من الناحية الفعلية، فانه لا أثمان حقيقية يدفعها الأميركي نتيجة ما يحدث في سوريا، ما دام الوضع الميداني على حاله، والأعداء في موقع دفاعي لا هجومي. الأمر الذي يفسر، في حدّه الأدنى، تمسك الأميركيين بمواقفهم، وابتعادهم عن المبادرة والتدخل المباشر، خصوصاً أن النتائج المحققة حتى الآن، (وإن لم تحقق ما كانت تطمح اليه لجهة اسقاط الرئيس الأسد) كافية بذاتها، ما لم تحدث تطورات من شأنها أن تفقد الأميركيين مكاسبهم، أو أن تزيد من المخاطر على مصالحهم ومصالح حلفائهم الحقيقيين في المنطقة، وهو ما يبدو متعذراً حتى الآن.
رابعاً، في نفس الوقت، لا يعني ذلك أن الادارة الأميركية ستسارع الى التدخل العسكري أو ما هو في مستواه، في حال مالت كفة الميدان الى أحد طرفي القتال الدائر في سوريا. بالطبع لن تبادر الى ما من شأنه أن يفضي الى الفوضى، نتيجة التقدير بأن مآلاته غير محسوبة وخطرة، لكن في حال حصول ذلك، ستسارع الى التعايش معه قدر الإمكان، والعمل على إيجاد حلول للحدّ من الخسائر أو حرف الواقع لتحقيق مصالحها، تماماً كما فعلت في أكثر من ساحة أخرى في المنطقة، شهدت «ربيعاً عربياً». مع ذلك، فان موازين القوى الظاهرة، لا تشير الى إمكانيات حسم كهذا، أقلّه في المدى المنظور.
خامساً، يواجه أي قرار أميركي انقلابي على التوجه الحالي، جملة من الظروف الضاغطة التي لا تسمح لواشنطن بالمبادرة الى الفعل أو السماح بالفعل، في الساحة السورية، ومن بينها: القدرة على تحقيق النتيجة المطلوبة من التدخل؛ صعوبة الحسم في الموازنة بين المكاسب الممكن جبايتها والأثمان المقدر دفعها؛ صعوبة مواجهة الأخطار المقدرة لليوم الذي يلي الحسم، كوجود خطر على المصالح الأميركية المباشرة ضمن النظرة الشاملة للمنطقة؛ التداعيات المفترضة على المحيط، وعلى الحلفاء الفعليين في المنطقة؛ وقبل كل ذلك، تحقق الولايات المتحدة من الحرب الدائرة في سوريا، حتى من دون حسم، قدراً كافياً من المصالح، وفي أساسها اشغال أعدائها في موقع الدفاع لا الهجوم، ما دامت غير قادرة حتى الآن على إسقاطهم.
ما الذي يعنيه ذلك؟ لا تسوية للأزمة في سوريا، الا كما يريدها الأميركيون، أي إسقاط الأسد بالتراضي، وهو أمر متعذر. وبشكل أوّلي، لا تسوية دون ذلك، كما يريدها الآخرون اذ لا ضرر أميركياً من استمرار الحرب، ما دامت الساحة السورية تشغل كل أعدائها في دائرتها، وما زالت مضبوطة فيها. في نفس الوقت، لا مقاربة أميركية مغايرة، تكون محفوفة بالمخاطر التي لا ضرورة أو لزوم لها. أما الباقي شبه الوحيد، الذي يمكن القول إنه تقريباً خارج القدرة الأميركية؛ فهو الحسم العسكري من قبل طرفي القتال، وبأدوات وإمكانات داخلية، الا أنه كما يبدو، لا يزال متعذراً على الطرفين، مع وجوب الإشارة الى أن صمود النظام طوال العامين الماضيين في وجه الهجمة عليه، وقدرته على الايذاء والإضرار بأعدائه، قبل وبعد وخلال محاولة إسقاطه، كان العامل الأكيد، في بلورة التوجهات الأميركية ازاء سوريا.



وزير الخارجية يتولى ملف التسوية

ذكرت مصادر فلسطينية مطلعة أن وفد السلطة الفلسطينية، الذي يضم عضوي اللجنة المركزية لحركة فتح صائب عريقات ومحمد شتيه، تبلغ من وزير الخارجية الأميركي جون كيري في واشنطن في نهاية الشهر الماضي، أن الأخير سيتولى بنفسه ملف تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وسيبدأ في غضون أسابيع قليلة، بعد انتهاء زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الأراضي المحتلة، عمله واتصالاته مع الجميع لتهيئة الاطار والمناخ لاستئناف المفاوضات، وأنه يؤمن بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 ولكن مع تبادل للأراضي. ونقلت المصادر ذاتها عن محمد شتيه قوله إن «ما ندعو اليه هو انهاء الاحتلال»، وهو ما استدعى كيري إلى أن يسأل عن الأولويات الفلسطينية، وكان الرد هو «الاسرى ووقف الاستيطان والوضع المالي للسلطة».