حلب | لمخيّم النيرب قصة تحكى: إنّه من أفقر المخيمات الفلسطينية، لكنه أغناها ثقافة وعلماً. في السبعينيات من القرن الماضي، كان هنالك 11 مدرسة ثانوية في حلب، خمسة من مديريها كانوا فلسطينيين. عشق فلسطينيو المخيّم العلم والتعليم، وكانت نسبة الأمية فيه أقل من 1 في المئة. وفي كل صباح قبل وصول الحرب إلى حلب، كان مئات المعلمين والمعلمات من أهالي المخيّم ينطلقون بحافلات صغيرة نحو مدارس عشرات القرى والبلدات في الريف القريب. انتهى الأمر بحصار «واحة التعليم»، حيث بات الحصول على بيضة ترفاً لا يقوى عليه غالبية السكان.
الفتنة

في ربيع العام الثاني للحرب السورية، تصاعد التحريض على المخيم، باعتباره مصدراً لـ«الشبيحة»، فقد شارك نحو عشرين شخصاًً من المخيم في قمع التظاهرات المنطلقة من جوامع حلب. وبعد شهرين، أُقنعوا بالتوقف عن «القمع»، فتوقفوا كما يروي أحد أهالي المخيم. ويضيف: «لكن بعد شهور بدأت حملة تحريض عليهم وهدرت دماؤهم، وللأسف قادها فلسطينيون من المخيم. سافر زعيم المجموعة خارج حلب، لكن التحريض لم يتوقف، وانضمت إليه تنسيقية ظهرت في قرية النيرب المجاورة». وصل الأمر إلى حدّ كتابة شعارات مسيئة إلى الفلسطينيين على جدران المدارس والمقبرة، واعتبارهم جميعاً أعداءً؛ لأنه لا تُنظَّم تظاهرات في المخيم لإسقاط النظام.
أحد سكان المخيّم يرى أنّ «اللاجئين لم ينكروا يوماً فضل السوريين وفضل أهل النيرب عليهم، ولكن الدولة هي التي أسكنتنا في ثكنة كانت لجيش الاحتلال الفرنسي. سكنا في المهاجع، وفي إسطبلات الخيول وصَبرنا، وعملنا بشرف واشترينا أراضي من إخوتنا أهل النيرب لتوسعة المخيم، فهل في هذا أي إساءة؟». التحريض أثمر في النهاية؛ إذ أقدم مسلحون من القرية في نهاية شهر حزيران 2012 على مهاجمة المخيم في آخر يوم من امتحانات طلاب القرية في مدارس المخيم. قتلوا ثلاثة شبان، فيما قتل اثنان من المهاجمين داخل المخيم.
ورغم المصالحة التي حصلت برعاية محافظ حلب وأمين فرع حزب البعث فيها، إلّا أن المياه لم تعد إلى مجاريها إلا أخيراً؛ إذ أدى الحصار المضروب على المخيم وقرية النيرب إلى تقارب الطرفين، حيث يشكلان «توأمين سياميّين» يصعب فصلهما. فحصار المخيم من دون القرية يؤدي إلى تهريب السلع عبر طريق القرية، لذلك قرّر المسلحون المعارضون فرض حصارهم على الجميع، وإن بتفاوت.

إعدام المجندين الفلسطينيين

بعد ثلاثة أيام من الهجوم المذكور، خطفت جماعة «أحرار الشام» في منطقة اللطامنة في حماه 15 من مجندي جيش التحرير الفلسطيني، كانوا عائدين من مركز تدريبهم في مصياف. فُجع المخيم بإعدام المجندين بدم بارد بعد تعذيبهم والتنكيل بهم. المفارقة المؤلمة وفق بعض أهالي المخيّم أن فلسطينياً كان «مطلوباً» قبل الأحداث لمحكمة الجنايات، يدعى أبو الغضب، هو من أشرف على تعذيبهم.

حالة حصار

منذ شهرين أصبح المخيّم محاصراً بالكامل، بالتزامن مع تصاعد الهجمات على المطار القريب منه، وعلى اللواء 80 ــ دفاع جوي، وتعرض أيضاً لسقوط قذائف أدى إلى وقوع قتلى وجرحى، فضلاً عن تعرضه لرصاص القنص.
جماعة «لواء التوحيد» في الجيش الحر، وجهت تحذيراً إلى «الفلسطينيين المؤيدين للنظام في المخيّم لتسليم أسلحتهم»، الأمر الذي دفع بعض الفلسطينيين إلى توجيه رسالة مقابلة بأنّ «أكثرية أبناء المخيم تقف على الحياد، وتطالب بعدم زجّ المخيم في أتون الصراع في سوريا».
وبالتزامن، أدى الحصار الذي ضربته المجموعات المسلحة على المخيّم إلى فقدان حادّ في المواد الغذائية الأساسية، وإلى ارتفاع جنوني في أسعارها. وصل، مثلاً، سعر البيضة إلى 30 ليرة سورية، والمعلبات إلى ثلاثة أضعاف سعرها، والأرز والسكر غير متوافرين بكميات كافية، وكذلك أغذية وحليب الأطفال. الخضر والفواكه بلغت أرقاماً قياسية، وأسطوانة الغاز المنزلي أصبح سعرها أكثر من 7000 ليرة، وهو 14 مرة ضعف سعرها الرسمي.
«الحصار خانق جداً، المسلحون يصادرون حليب الأطفال ويرمون بزجاجات حليب الرضع من يد الطفل إمعاناً في قهر الفلسطينيين»، يروي أبو علي من مخيّم حندرات، الذي يستضيف في منزله لاجئين لم يتمكنوا من العودة إلى مخيّم النيرب.
أما الكهرباء، فمقطوعة منذ خمسين يوماً. ولجأ المواطنون إلى الاشتراك في مولدات مقابل مبلغ عن كل ساعة استجرار للتيار. وفيما عادت مخابز المخيّم للعمل بعد تزويدها بالطحين من طريق عناصر الجيش السوري المرابطين في مطار النيرب، وصل سعر البنزين إلى 300 ليرة لليتر الواحد، وهو ستة أضعاف سعره الرسمي. الحصار شمل في أوجه منه قرية النيرب الملاصقة للمخيم؛ فرغم ما جرى العام الماضي، إلا أنّ غالبية سكان القرية رفضوا الانجرار إلى «مخطط الفتنة».
ناصر، العامل في إحدى المؤسسات الحكومية، الذي يسلك طريقاً طويلة مرتين في الأسبوع للوصول إلى مقر عمله في مدينة حلب، يقول: «حال إخوتنا في القرية كحال المخيم. الحصار عليهم كما هو علينا؛ لأنّ المسلحين يعرفون أنّ أهل النيرب سيزودوننا بكل ما يصل إليهم، ولذلك الحصار لهم ولنا».
لم يتمكن الشهر الفائت معظم الموظفين وعمال القطاع العام من قبض رواتبهم. أحد المعلمين قال لـ«الأخبار»: الدولة تتفهم ظروفنا ولم تقطع الرواتب عنا، ولكن الخروج من المخيم والعودة بمبلغ مالي هو مخاطرة كبيرة، ولا يمكن تسليم الراتب إلا لصاحب العلاقة».

«حماة المخيم لا شبيحة»

حادثة قتل المجندين التي جاءت بعد اشتباكات عنيفة بين فلسطينيين ومسلحين من قرية تلشغيب صعّدت من القلق على مصير المخيم، الذي بادر أهله إلى شراء السلاح والذخائر، رغم ثمنها الباهظ.
كلمة «شبيحة» أصبحت مرفوضة في المخيم. شبابه الذين حملوا السلاح وتعاونوا مع السلطات السورية هم «لجان شعبية» و«حماة المخيم»، وتعاونهم مع الجيش النظامي يقتصر على داخل المخيم.
أحد نشطاء المخيم يروي لـ«الأخبار» أنّ «تطورات الأزمة جعلت عدد أفراد اللجان 500 شاب يحملون السلاح دفاعاً عن المخيم، بدلاً من 20 كانوا يحملون الهراوات ضد المتظاهرين. وهذا يعني أنهم مع عائلاتهم يبلغون نصف المخيم على الأقل، ويقف معهم نسبة كبيرة من نصفه الآخر، وأصبح لهم وزن واحترام».
أحد المحامين من أبناء المخيم يرى أنّه «لم نربط مصيرنا بالنظام، ولكن استهداف المخيم أمر لا علاقة له بالحرية أو الصراع على السلطة. حتى إن كان المخيم ضد النظام، سيحتله المسلحون. والأمر يتعلق بموقع المخيّم المتاخم للمطار؛ فالسلطة تريدنا أن نبقى في مخيمنا لكي لا ينكشف المطار».

مطار النيرب

المخيّم يتاخم المطار من جهة الجنوب، وهي المنطقة المأهولة الأقرب له والمطلة عليه، وسيطرة المسلحين على المخيّم تجعل المطار مكشوفاً، حيث يسهل استهدافه من منطقة سكنية، الأمر الذي يُعَدّ بالنسبة إلى سكانه كارثة هجرة أخرى. فالجيش لن يقف مكتوف الأيدي. لذلك، يسود رأي عام في المخيّم، مفاده أنّ التمسك بحجارة مسكنهم تحت أي ظرف أسهل من تركه، «فقد لا نتمكن من العودة إليه كما حصل مع فلسطينيي مخيم اليرموك».

تجاوزات اللجان مرفوضة

بعد اقتراب الجيش السوري من تخوم المخيّم، وفرار المسلحين من تلشغيب القريبة، نهب بعض أفراد «اللجان الشعبية» بيوتاً ومحالّ في القرية، الأمر الذي لقي استنكار الأهالي.
الشيخ أحمد الخطيب وولده الشيخ علي دعَوَا هؤلاء إلى إعادة المسروقات، فامتثل البعض وأحجم البعض الآخر، فيما زود تجار أثرياء من تلشغيب، رداً على ذلك، المخيّم بمساعدات غذائية للعائلات الفقيرة، في خطوة قوبلت بالاحترام والترحيب في أوساط الأهالي الذين يتوقون لعودة المياه إلى مجاريها بين المخيم ومحيطه السوري، بعدما ساءت العلاقة بينهما نتيجة «طرف ثالث»، وفق أهالي المخيم. فقد اتهموا قوى «لا تريد الخير لسوريا ولفلسطين» بثّت الشائعات والفتن، ومنها أن معارضين من النيرب وتلشغيب أسهموا في خطف المجندين وقتلهم، وهي الحادثة الأفجع في تاريخ المخيم، التي جاءت بعد فترة قصيرة من مشاجرة مفتعلة بين مراهقين أعقبها هجوم بالأسلحة النارية على المخيّم.
الشيخ علي أحمد الخطيب ألقى كلمة في جامع القدس، قال فيها إنّ بعض الذين سرقوا من محالّ تلشغيب وبيوتها قالوا له إنهم نادمون، وإنهم فعلوا ذلك بسبب الحصار على المخيّم، وطلبوا منه إعادة المسروقات. وناشد من يحاصرون المخيم السماح بإدخال المواد الغذائية، مؤكداً «عدم جواز السرقة من القرى المجاورة ووحدة الدين والدم بيننا وبين تلك القرى التي تعايشنا معها منذ عقود».



انحسار دور الفصائل

تكاد الفصائل الفلسطينية في المخيّم تخسر دورها مع صعود ظاهرة «اللجان الشعبية». بعض الأهالي يطالبونها بتحويل مكاتبها إلى مراكز لتوزيع الخبز.
غالبية سكان المخيّم توالي حركة فتح، مع وجود ملحوظ للجبهة الشعبية، ولـ«القيادة العامة»، وحركة «حماس». هذه الفصائل لا موقف رسمياً لأيّ منها – عدا القيادة العامة – مما يجري. المزاج العام معنيّ بأمن المخيم أكثر من الانحياز إلى أحد أطراف الصراع. الجبهة الشعبية – القيادة العامة أصدرت بياناً دعت فيه «ميليشيا الجيش الحر وجبهة النصرة إلى فك الحصار عن المخيّم»،
واستنكرت «الصمت الإعلامي والفصائلي المطبق حيال ما يجري، ما یثیر العدید من علامات الاستفهام حول دور بعض الأطراف في الأزمة السوریة».