رام الله | كالصمت الذي يكسو صوت حنجرته المتهدج عندما يتكلم، كذلك كان صمت العالم وهو يشاهد أسيراً يُحتضر مكبّل اليدين تحت مرأى سجّانه. ميسرة أبو حمدية، الذي طرأت عليه الأمراض بعد دخوله السجن، كان يتردّد دوماً إلى العيادة هناك، ولا يحظى إلا بحبة «أكامول» في أفضل الأحوال.
متأخرةً، اكتشفت الطواقم الطبية في السجن أنه مريض بسرطان الحنجرة؛ ومع إهمال مصلحة السجون في علاجه، تمكّن منه المرض حتى وصل الى النخاع الشوكي لديه ليقضي ميسرة شهيداً في مستشفى سوروكا ببئر السبع، بعدما مكث في السجن 11 عاماً من أصل 99 عاماً أخرى، كان من المفترض أن يقضيها بموجب الحكم الصادر بحقه عام 2002، بتهمة المشاركة في الانتفاضة الثانية.
اذاً بعد عرفات جرادات، شهيد التعذيب، فقدت مدينة الخليل ابنها الثاني داخل سجون الاحتلال في أقل من شهرين، ليلحق بـ 206 شهداء قدّمتهم الحركة الأسيرة قبله. وما أن وصل الخبر إلى مسامع أبناء المدينة، حتى اندلعت المواجهات بين الشبان والأطفال العائدين من المدارس من جهة، وجنود الاحتلال من جهة أخرى في منطقة باب الزاوية، وبالقرب من المسجد الإبراهيمي تحديداً. وامتدت المواجهات لتشمل حاجز عوفر قرب رام الله، ومنطقة المساكن في نابلس على وقع تصريحات المسؤولين الفلسطينيين المنددة.
وفي داخل المعتقلات الإسرائيلية، هبّ الأسرى في سجون النقب، نفحة، رامون، وإيشيل، قارعين الأبوب ومكبّرين فور سماعهم خبر استشهاد ميسرة، ليواجَهوا بالهراوات وقنابل الغاز من قبل شرطة مصلحة السجون الإسرائيلية، ما أدى إلى وقوع إصابات بين الجانبين.
في الوقت الذي أعلن فيه وزير شؤون الأسرى والمحررين، عيسى قراقع، عن نية الأسرى الدخول في إضراب عن الطعام اعتباراً من يوم غد، احتجاجاً على حادثة الاستشهاد، واصفاً إياها بأنها «جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد»، أشار إلى أنه سيتم تشريح جثة الشهيد في مستشفى أبو ديس بمشاركة أطباء دوليين. ودعا رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس، إلى محاكمة إسرائيل في المحاكم الدولية مع ارتفاع وتيرة الانتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين داخل السجون. أما ابن الشهيد، طارق أبو حمدية فقال لوكالة «وفا» الرسمية إن سلطات الاحتلال امتنعت عن منح العائلة تقريراً طبياً عن حالته الصحية أثناء مرضه وبعد استشهاده. وأضاف: «سلطات الاحتلال منذ اكتشاف إصابة والدي بالسرطان في شهر تموز الماضي لم تقدم له أي علاج، وتعمّدت بذلك تفشي السرطان في جسده»، مشيراً الى أن سرطان الحنجرة في حال اكتشافه بشكل مبكر تزيد إمكانية شفائه بنسبة 90 في المئة، مبيّناً أن الاحتلال قد خطط بشكل مبيت لتصفيته، كونه كان معروفاً بين السجناء بعلمه وثقافته، ويدير لقاءات ثقافية وعلمية، ويتقن اللغتين الإنكليزية والعبرية. الأسوأ أن الحكاية لا تنتهي عند ميسرة أبو حمدية. هناك في سجون الاحتلال حوالي 1300 أسير مريض يشكّلون حوالي ربع عدد الأسرى الفلسطينيين، بحسب المركز الفلسطيني للدفاع عن الأسرى، بينهم 130 يعانون أمراضاً خطيرة، كالسرطان والإعاقات، بينما تعتبر حبة «الأكامول» والمسكنات العلاج الأساسي الذي تستخدمه مصلحة السجون في كل الحالات. وكثير من الأسرى يدخلون السجون بصحة جيدة، ويخرجون مثخنين بالأمراض، بسبب الإهمال والتعذيب وظروف السجن السيئة. وتعمد إسرائيل غالباً إلى إطلاق سراح الأسير بعد أن يفتِك به المرض، ليموت بين أهله فتتنصل من مسؤوليته، وهذا ما حصل قبل فترة وجيزة مع الأسير أشرف أبو ذريع، وهو من الخليل أيضاً، عندما فارق الحياة بعد أسابيع قليلة من إطلاق سراحه.
لكن سلطات الاحتلال في حالة ميسرة أبو حميدة تجاهلت الدعوات الكثيرة التي أطلقتها جهات حقوقية ومنظمات أسرى وحقوق إنسان إلى التحرّك نصرةً للأسير أبو حمدية وهو على فراش موته، مكتفيةً بتقديم وعود لإطلاق سراحه. وشاء القدر أن يموت بين سجانيه، ليعرّي الاحتلال، ويصفع صمتنا. وهو صمت ينسحب على خفوت التضامن مع الأسرى، وخصوصاً المضربين منهم عن الطعام. ففي مستشفى «كبلان»، ثمة أسير آخر يرقد مضرباً عن الطعام منذ ما يربو على ثمانية أشهر. إنه سامر العيساوي الذي لا يزال يشهر جوعه في وجه جلاده، وينتظر المدد من الشارع. تُطلق أخته نداءات الاستغاثة يومياً صادحة: «أريد أخي حيا بيننا». وأخوها المسجى على السرير معلق ما بين الحرية أو الشهادة، فيما لا تزال الأمراض تنهش جسمه الضئيل يوماً بعد آخر، ونبضات قلبه تنخفض وترتفع بشكل فجائي، في حالة يصفها طبيب وزارة الأسرى بأنها «حالة موت». ولا يدري أحد ما الذي يخبئه الغد، ربما يكون مصيره كمصير ميسرة أبو حمدية، أو أشرف أبو ذريع، فيما تستمر دولة الاحتلال بالتنصل من مسؤولياتها. وسارع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للرد على المواقف الفلسطينية التي حملت إسرائيل المسؤولية عن استشهاد الأسير، بالقول انه توفي متأثراً بمرض السرطان الذي ألمّ به، وان «السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يتلقون معالجة طبية ممتازة، ويتمتعون بزيارات ممثلي لجنة الصليب الاحمر، في حين ان السجناء في السجون التابعة للسلطة الفلسطينية لا يحصلون على أي شيء».
بدورها، حاولت مصلحة السجون الإسرائيلية احتواء مفاعيل استشهاد أبو حمدية، معلنةً أنه تم تشخيص مرضه قبل حوالي شهرين، وكان يخضع منذ ذلك الحين للمراقبة الطبية، وبعدما تبين أنه لم يعد هناك أي أمل في شفائه، شرعت مصلحة السجون في اجراءات للافراج عنه، لكنه توفي قبل استكمالها.
هذه التبريرات لم تحجب حالة الهلع التي أصابت قوات الاحتلال عقب الإعلان عن نبأ وفاة أبو حميدة. وذكرت إذاعة الجيش أن إسرائيل رفعت درجة تأهب قواتها في المنطقة الجنوبية المحاذية لقطاع غزة بعد تأكدها من استشهاد الأسير، وعلى خلفية وجود خشية في الجيش من أن يؤدي موته إلى أحداث شغب في الضفة الغربية عشية يوم الأسير الفلسطيني بعد حوالي أسبوعين، وخصوصاً في ظل تردي الأوضاع الصحية للأسرى.
تجدر الإشارة الى أن حصول فلسطين على صفة «دولة غير عضو» في الأمم المتحدة، يمكّنها من الانضمام إلى المواثيق ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وتفعيل قضية الأسرى على الصعيد العالمي، وصولاً إلى محاكمة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية.