تونس | يحلو ليساريي العالم أن يقسموا العالم إلى قسمين: الشمال المستقوي والجنوب المستضعف. هذه المصطلحات كانت معتمدة رسمياً لتقسيم العالم في المنتدى الاجتماعي العالمي الذي استضافته تونس الأسبوع الماضي. لكن جردة المنظمات اليسارية الحاضرة في تونس رسمت خريطة أخرى للكوكب. فقد غاب عن المنتدى، الذي دام خمسة أيام، وفود من شرق آسيا حيث يقيم نحو نصف سكان العالم.
وغاب أيضاً تمثيل للكتلة الشيوعية السابقة. يمكن أن يكون هناك تفسيرات كثيرة لهذه الظاهرة. بعض هذه التفسيرات هي المسافة البعيدة، والتكلفة الباهظة للسفر، وغياب الحركات غير الحكومية من هذا النوع في بلاد يحكم فيها اليسار أو سبق له أن حكم خلال القرن الماضي. بغض النظر عن الأسباب، بدا واضحاً، أن المنتدى الاجتماعي العالمي الناشئ، الذي يعقد دورته الثالثة عشرة، ينطلق من مرتكز أوروبي - أميركي. وتُعَدّ الرحلات إلى أفريقيا – تونس في عام 2013 بعد داكار في عام 2011 – خطوة خجولة نحو البلدان التي اعتادت أن تلقى التضامن العالمي في السنوات الأخيرة.

فلسطين توحّد الصفوف

من موكب الافتتاح في 26 مارس/آذار، الذي جال على طول شارع محمد الخامس في العاصمة التونسية، إلى النشاطات التي نظمت في حرم جامعة المنار، وحتى مسيرة يوم الأرض التي نظمت في الختام، كانت فلسطين حاضرة بقوة. إن كان الشعار العام للمنتدى المناهض للعولمة «عالم آخر ممكن»، فإن فلسطين بلا شك كانت شعار النسخة التونسية منه.
زيّنت صورة الأسير سامر العيساوي، المضرب عن الطعام والمقعد في كرسيه المدولب داخل محكمة إسرائيلية، العديد من الجدران في الحرم الجامعي. وتبادل ناشطو حملة مقاطعة إسرائيل BDS من جميع أنحاء العالم المعلومات والآراء بشأن نشاطاتهم. وعمدت الكثير من المجموعات التونسية إلى بثّ الأغاني الداعمة لفلسطين من منصات عرضها. كذلك سُيرت تظاهرات طيارة داعمة لفلسطين حول الحرم طوال الوقت.
بينما كان شعار «فلسطين حرة» هدفاً موحداً، اختلف الناشطون على كيفية تحقيق هذا الهدف. فممثلو سلطة أبو مازن داخل خيمة فلسطين الرسمية امتعضوا عند سماع هتافات إحدى المجموعات الشبابية الفلسطينية المطالبة بالمقاومة المسلحة والمعارضة لأوسلو. وأثارت لافتة للخميني في معرض صور عن غزة استياء شباب شيوعيين تونسيين، فعمدوا إلى تخريبها. الحادثة الأخيرة حفزها جزئياً التضامن مع اليسار الإيراني، المضطهد كثيراً من قبل الجمهورية الإسلامية، لكنها كانت أيضاً نتيجة الازدراء المتراكم لدى اليسار التونسي لخصومه الإسلاميين في حزب النهضة.

... وسوريا تفرّقها

«الجهاد في فلسطين، يا تجار الدين!» كانت هذه التهمة التي غالباً ما رددتها الجبهة الشعبية اليسارية التونسية ضد القوى الإسلامية ودعواتهم إلى الجهاد في سوريا. شكل المجاهدون التونسيون في سوريا موضوعاً بارزاً في الأحاديث الإذاعية التونسية، ولا سيما بعد انتشار خبر الفتوى التي تدعو النساء إلى المشاركة في ما سمي جهاد النكاح. إن صحة هذه الفتوى تحديداً كانت محل نزاع، لكن التوتر بين اليسار التونسي والإسلاميين التونسيين بشأن سوريا شديد للغاية.
إن علاقات حركة النهضة بقطر، وبالتالي المعارضة السورية، هي السبب الأبرز لاتخاذ اليسار لموقف كهذا. لكن بعيداً عن تونس، لا تزال سوريا موضوع خلاف كبير في اليسار العالمي. لا تزال جدلية مناهضة الإمبريالية مقابل مناهضة القمع الأبرز، ولم تتطور كثيراً بعد مرور سنتين على الأزمة.
استقطبت زاوية الحملة العالمية للتضامن مع الثورة السورية الكثير من المتسائلين بشأن المؤهلات الثورية للثوار السوريين، إلى جانب سخط الكثير من الموالين للرئيس السوري. الكثير من المناظرات كانت ساخنة. لكنها أيضاً مكان حج متكرر لمجموعة «شبيحة إلى الأبد»، ما صعّد من حدة المناظرات وحوّلها إلى مواجهات، تطورت في اليوم الأخير للمنتدى إلى اعتداء بالضرب على 5 ناشطين في حملة التضامن وتكسير منصة عرضهم.
«الشبيحة» كانوا تونسيين «قوميين عرب»، وفق تعريفهم لنفسهم. وكانت خيمتهم على بعد بضعة أمتار من زاوية المعارضين للنظام السوري. وقاموا بتعليق صورة للرئيس السوري بشار الأسد على جانب من خيمتهم إلى جانب صور لمقاومين تاريخيين كالمهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا وعمر المختار والسيد حسن نصر الله، وغيرهم. وهم بدورهم كانوا يستجوبون من قبل الزوار، غالباً بحدة، عن السبب الذي دفعهم إلى تعليق صورة لبشار الأسد. كانت تؤدي الإجابة في الغالب إلى هتاف واحد متكرر «الله، سوريا، بشار وبس». قد يتساءل المرء كيف يمكن هتافاً يمجد الإله الواحد، وأمة رسم حدودها المستعمرون الأوروبيون وحاكم بالوراثة، وبَسّ! أن يسهم في حشد التأييد لقضيتهم في منتدى تقدمي الهوى، لكن ثمة الكثير من القضايا التي لم تكن منطقية في المنتدى.

حكومات المنتدى

قاطع الأناركيون التونسيون المنتدى الاجتماعي العالمي بسبب دعم الحكومة التونسية للحدث. لكن هذا لم يكن التورط الوحيد للحكومات، أكانت التونسية أم غيرها. مثلاً، انتشر المخبرون التونسيون بنظاراتهم الشمسية وجاكيتاتهم الجلدية – زيّ المخابرات العربية النموذجي – حول الحرم وعلى طول المسيرات التي أقيمت.
من الناحية التمويلية، يعود الكثير من المال الذي أنفقته المنظمات غير الحكومية لإحضار الجمهور إلى الحكومات أو الأحزاب الحاكمة. فكانت الذراع الإنمائية للحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني حاضرة على سبيل المثال.
إيران كانت ممثلة بالعديد من المنظمات شبه الرسمية التي يتخصص معظمها بفلسطين، وهي طغت عددياً على مجموعة آتية من الأحواز المطالبة بالحكم الذاتي. لا يمكن تطبيق القول نفسه على الوفد المغربي الرسمي الصغير نسبياً، الذي كان هاجسه الوحيد تأكيد حق المغرب في الصحراء الغربية. لكن معارضته كانت عبارة عن مجموعات صحراوية عديدة وصاخبة ومتعددة الألوان.
ربما، إحدى أكثر المشاهدات فكاهةً في الحرم كانت خيمة حملت طابع «المملكة الإنسانية»، في إشارة إلى حكم آل سعود في الجزيرة العربية. وكان هناك العديد من الأقليات المتناثرة في أنحاء الحرم، على اعتبار أن عنوان الأقلية المضطهدة يسهّل كسب التعاطف.
شركة بيتروبراس النفطية كانت الجهة الراعية لإحدى المجموعات البرازيلية. أحد عمالقة الكولا حضر بخجل وبنحو عرضي، على الأرجح، في أحد كشكات الوجبات الخفيفة. أما استغلاليو الحدث، الذين كانوا غائبين إلى حدّ كبير في الأيام التي سبقت المنتدى الاجتماعي العالمي، فظهروا بأعداد كبيرة مع مرور الأيام. وظهر بائعو الإعلام والدبابيس والقمصان. بعض سائقي سيارات الأجرة رفعوا تعرفتهم، والمدهش، أو ربما لا، كانت مضاعفة حانة يسارية سعر Celtia، وهي البيرة التونسية، مع توافد الحشود إليها، ما دفع أحد الشباب الراديكاليين إلى القول: «هذه ليست حانة يسارية. لا يرتادها اليساريون، إنها مخترقة».

تحية لليسار التونسي

بعيداً عن أسوار حرم جامعة المنار، كان اليسار التونسي يشعر بالحيوية والطاقة. شكل اغتيال شكري بلعيد في شباط صدمة للمشهد اليساري المنقسم والمكتئب الذي شهد على وصول النهضة إلى السلطة بعد انتفاضة ترأستها النقابات العمالية والأحزاب اليسارية المحظورة. عُدّت الحادثة جرس إنذار، وكان الإقبال الشعبي الهائل على جنازة بلعيد لمحة عمّا يمكن أن تمثله جبهة يسارية موحدة.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل الجهة الأساسية المنظمة للمنتدى الاجتماعي العالمي. ولمدة أسبوع اختطفت المنظمات اليسارية المتنوعة الأضواء التونسية لنفسها. الأيام المقبلة ستظهر إن كان زخم المنتدى سيستمر على حاله بعد انتهاء الحدث، بيد أن معظم الناشطين اليساريين يعتقدون أن هذه نقطة تحول بوجه الإخوان المدعومين من قطر. لكن، لا يبدو أن المنافسة ستكون ودّية، فالحادثتان مثال على ما يحصل يومياً في شوارع تونس.
في الحادثة الأولى، يصرخ شاب سلفي: «شكري بلعيد في جهنم!» بوجه شاب آخر يرتدي قميص الجبهة الشعبية، في أحد أحياء تونس المحافظة. لم يبدر أي رد فعل من الشاب اليساري على هذا الاستفزاز؛ لأنه وقع في «منطقتهم». أما في خلال مسيرة يوم الأرض، التي نظمت في نهاية المنتدى الاجتماعي العالمي، فانتشرت قوات الأمن التونسية لإبقاء الإسلاميين بعيدين عن اليساريين الذين كانوا أغلبية في هذا اليوم. هذا الإجراء لم يمنع بعض المشادات المتفرقة، حيث شعر الشباب اليساري بالحاجة إلى إثبات أنهم أيضاً عندهم «منطقتهم».
(ترجمة كوثر فحص)



لبنان حاضر موسيقياً

اقتصر الحضور اللبناني في المنتدى الاجتماعي العالمي على بعض الأفراد ممثلين أنفسهم أو بعض المنظمات. لكن الحضور كان مشتتاً وخجولاً إجمالاً.
مع ذلك، صدحت مكبرات الصوت المنتشرة حول حرم جامعة المنار، حيث عقد المنتدى جلساته، بكلاسيكيات الحركة الوطنية. أناشيد زياد الرحباني ومرسيل خليفة وجوليا بطرس واكبت نشاطات المنتدى بكثافة من الباب الفلسطيني. أما في ما يخص ارتجالات الشباب التونسي، فالمنافسة كانت زيادية ــ شيخ إمامية بامتياز.
لكن تبقى هناك ظاهرة لم يتمكن أحد من شرحها: لماذا تحظى أغنية «يا حجل صنين» الفيروزية بالشعبية التي تتمتع بها عند الشباب اليساري التونسي اليوم؟