تُسلم عليه وتقبّل يده ورأسه أو على الأقل تتودد إليه. هذا ما يجول في خاطر أي منا عندما يلمح أستاذاً كان قد تتلمذ على يده. لكن الأمر مع رجال الشرطة الفلسطينية على عكس ذلك تماماً. كل ما جال في خاطرهم، عندما قرر معلمو الضفة التظاهر في رام الله للمطالبة بحقوقهم، تمثّل في محاصرة جميع المعلمين ومنعهم من مواصلة الطريق.اعتصام رام الله كان وجهة معلمي محافظات الضفة التي تخضع تحت حكم السلطة. من هؤلاء مدرس اللغة العربية محمد جرادات، الذي يعمل في مدارس جنين. خرج من منزله متوجهاً إلى مديرية التربية والتعليم في جنين، التي كانت نقطة تجمع معلمي المحافظة للتوجه إلى رام الله. لكن رجال السلطة جاؤوا مسرعين ليقطعوا الطريق عليهم ويمنعوهم من مغادرة المحافظة.
شعور الصدمة سيطر على المعلمين الذين تجمعوا في المكان، فلم يكن ما فعلته الشرطة أمراً متوقعاً، ولا حتى مفهوماً. تساءل الجميع عن سبب إنزال جميع المعلمين من الحافلات. لم تحتج الحقيقة كي تظهر إلا إلى صراخ ذلك الشرطي الذي قالها بالمختصر: «لن تشاركوا في اعتصام رام الله اليوم».
بدأت عقول المعلمين تفكر بحلول تمكنهم من الوصول إلى وجهتهم حيث سيطالبون بحقوقهم التي حُرموها منذ ما يقارب خمس سنوات. منهم من اقترح استئجار حافلات من الداخل المحتل، لكون الشرطة الفلسطينية ليس لها سلطة على المركبات التي تحمل بطاقة إسرائيلية. لكن رغبة السلطة في إحباط الاعتصام جعلها «تسترجل» وتمنع سائقي الحافلات التي تحمل بطاقات إسرائيلية من تحميل المعلمين!
ما فعله رجال الشرطة لم يثنِ المعلمين عن إيجاد حلول أخرى. أحضر كل معلم سيارته واصطحب معه بعض زملائه، لكن رجال السلطة أوقفوهم مرة ثالثة وصادروا منهم مركباتهم. بدا الأمر حينئذ معقداً ومحبطاً للجميع. لكنّ جرادات ومعه أربعة آخرون استطاعوا الإفلات من «سجانيهم» وخرجوا من شوارع المدينة متجهين إلى طريق رام الله. من بعيد لمحوا عدداً من سيارات الشرطة التي نصبت حواجزها على الطريق لتمنع «الفارين» من إكمال طريقهم. ترددوا قليلاً وخفضوا السرعة وأخذوا يفكرون في طريق أخرى التفافية.
في هذه الأثناء انسحبت سيارات الشرطة الفلسطينية، ففرحوا بذلك وأكملوا طريقهم متسائلين عن سبب الانسحاب. بعد دقائق معدودة قابل جرادات ورفاقه من المعلمين عدداً من الجيبات العسكرية الإسرائيلية المتجهة إلى بلدة قباطية القريبة من الحاجز الذي نصبته السلطة، فتبين لهم أن الانسحاب كان لفسح المجال أمام العدو كي يقتحم قباطية. علق جرادات قائلاً: «أسد عليّ وفي الحروب نعامة».
عند دخولهم سميراميس، التي تبعد عن مكان الاعتصام ما يقارب أربع كيلومترات، فوجئوا بحاجز ينقب عن المعلمين المتوجهين إلى ذلك المكان «الملعون». اختاروا الترجل من السيارة وإكمال طريقهم سيراً على الأقدام خوفاً من إرجاعهم عنوة من حيث أتوا وبعدما قطعوا كل هذه المسافة. لكن المشاة لم يسلموا من المنع أيضاً، ما اضطرهم إلى سلك طريق تقودهم إلى جبال تلك القرية، فأخذوا يسيرون في الطرق الوعرة التي زادها الطين والمطر المتساقط صعوبة حتى وصلوا إلى الاعتصام.
بدا مكان الاعتصام مختلفاً تماماً برغم كل تلك التضييقات والمخالفات التي حررتها الشرطة للمعلمين الذين أقلوا بسياراتهم الشخصية زملاء لهم ووصلت إلى ما يقارب 90 دولاراً على كل سيارة، بذريعة نقل ركاب مقابل أجرة. تجمّع ما يقارب 20 ألف معلم للمطالبة باستقالة رئيس «اتحاد المعلمين» أحمد سحويل، وإعادة انتخاب أعضاء الاتحاد بالإضافة إلى زيادة بنسبة 50% على الراتب الشهري الذي لا يتعدى 400 دولار... ومطالب أخرى أقل ما توصف بأنها منصفة.
طريق الوصول إلى اعتصام رام الله كانت عند محمد جرادات أشبه برواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، تلك الرواية التي مات فيها الرجال الثلاثة لأنهم لم يطرقوا باب الخزان. يؤكد أنه حضر إلى الاعتصام ليقول لا للاستعباد الذي تمارسه السلطة على كل «صامت خانع». وبرغم اشتياقه لطلابه وخوفه على مستقبلهم، فإنه قرر رفع شعار «كرامة المعلم ليكون نهج حياة».
ما فعله جرادات وآلاف المعلمين للتعبير عن رأيهم برغم كل القيود التي وضعتها السلطة كان كسراً لأقفال السجن وفضحاً للديموقراطية الزائفة التي تغنت بها رام الله على مدار سنوات عدة، وكانت تباهي بها غزة، التي تمارس هي الأخرى القمع نفسه. ثم خرج اللواء توفيق الطيراوي لاعتلاء منبر قناة «فلسطين»، وحاول ترميم صورة السلطة، قائلاً إن ما جرى مع المعلمين هو «اجتهاد شخصي» من بعض الضباط وليس بأوامر من الحكومة.
ما زاد سعادة المعلمين، ردّ فعل الأهالي الذين ردّوا بدورهم على حركة «فتح» في جنين، بعدما كانت الأخيرة قد دعت إلى تنظيم مسيرة حاشدة ضد إضراب المعلمين أمس. رفض الأهالي المشاركة معها، وبدت الدعوة مضحكة بنظر من يشاهد الشوارع فارغة إلا من خمسة «طلاب» تركوا المدرسة منذ زمن ليتعلموا في مدرسة الحياة كيفية جرّ عربات الخضروات والفواكة.