أجنحة لا تعرف الطيران

نهر البارد ــ نضال عبد العال
قال لي صديقي عندما أهداني العصفور في القفص: «لقد اشتريته فرخاً صغيراً، كان قد ولد للتوّ، فربيته وأطعمته بيدي حتى صار يافعاً مفعماً بالحيوية، لا ينفك يتنقل من مكان إلى آخر في مساحة تقل عن نصف متر تسوّرها القضبان في كل اتجاه. لا أعرف، ولكن أظن أنه ضاق ذرعاً بالعيش معي في «البراكس»». ثم أردف: «إني أهديك إياه لأني أرجو له أفقاً أوسع. ألا يكفيه أنه محجوز في قفص؟! وقفص في «البراكس» أيضا؟». كنا وقتها نجلس في صبيحة يوم آذاري مشمس على شرفة بيتي المطلة على المخيم.

يزين المشهدَ منظرٌ رائع لمصبّ النهر في البحر الملاصق للمخيم من جهتَي الجنوب والغرب. يضيف صديقي بصيغة الرجاء، مشيراً إلى البلبل: «إنه يستحق هذه الشرفة. إذا ما علقته هنا، فسوف يشعر بأنه حرّ، وقد يعوضه ذلك عن مرارة الأسر».
لا أعرف إن كانت هديته الرائعة التي شكرته عليها، تتعلق بالعصفور فقط. ربما كان أمله أن يخلّص البلبل المسكين من ظروف لا يستطيع هو أن يخلص نفسه منها، ظروف مفروضة عليه قسراً جراء ما جرى في المخيم، فإن كان هو ينتظر فرجاً قريباً متمثلاً بإعادة إعمار المخيم، فما علاقة البلبل؟ فهو غير مضطر مثله إلى الانتظار سنوات ليتخلص من ظروف الحياة في «براكسات الحديد».
كنت فرحاً جداً بهذه الهدية، وحاولت قدر المستطاع أن أعوّض عصفوره الصغير عمّا فاته. وظل حديث صديقي وتمنياته للعصفور الصغير في بالي، وصار هذا الضيف الجديد جزءاً من عائلتنا التي شُغلت بطعامه وشرابه وإخراجه يومياً ليعلَّق على الشرفة صباحاً ويُدخَل مساءً: هل يناسبه الهواء، أم تزعجه الشمس الحادة؟ هل يأكل كل أنواع الأطعمة التي نأكلها نحن؟ أم يكتفي بالحبوب الخاصة؟
لقد مضى على وجوده بيننا ما يقارب عشرة أيام، كنت خلالها أحاول أن أكون «سجّاناً» مهذباً ومتفهماً لحاجاته، كريماً معه، أطعمه مما نأكل وأُشربه مما نشرب، أنقله من مكان إلى آخر ليتمكن من الاستمتاع بالمشهد من زوايا مختلفة. مرة أعلقه على شرفتي، وأخرى على نافذة المطبخ، ثم أحمله إلى نافذة غرفة الاستقبال. لم أتوانَ عن القيام بما يجب لأعلّم هذا العصفور الذي ولد في الأسر، أنّ الفضاء أوسع من «البراكس»، وأن العالم مشهد مترامي الأطراف، وبالإمكان النظر إليه من زوايا عديدة لا حدود لها، إلى أن قهرتني تلك الفكرة. لقد رباه صديقي فرخاً في قفص، وطوال خمس سنوات عاش مأسوراً، ليس في قفص وحسب، بل في «براكس» أيضاً. فهل يعرف هذا العصفور الصغير أنه طير، وأنّ جناحيه خلقهما الله له للطيران؟ هل يعلم أن طبيعته مجبولة بالحرية، وأنه يكمل وأقرانه مشهد الطبيعة الرائعة: الشجر والشمس، النهر والبحر، وأنه عازف مبدع في سمفونية الطبيعة؟
كان صديقي يطعمه بيديه، ويمده بأسباب البقاء مغموسة بجرعات الإدمان خلف القضبان، حتى صار الموت دونها محتماً، قتل فيه غريزة البحث عن الحرية. وعندما بدأت أعلمه أسباب الحرية، كنت في الحقيقة أمعن في تعذيبه، لكونه تعرف إلى قساوة البقاء خلف القضبان، فلم تعد هي ما يحميه من عبث الآخرين وقساوتهم. عرف أن ما يحميه هو جناحاه اللذان كلما كانا أكثر حرّية، كان أكثر أمناً.
وإذا كنا، صديقي وأنا، مذنبين حتماً، هو قتل فيه غريزة الحرية، وأنا علمته إياها وحرمته إياها. فمن منا ذنبه أكبر؟
فكرت في أن جريمتي تفوق ذنب صديقي أضعافاً، كيف أعرّفه إلى الحرية وأحرمه إياها؟ قررت أن أفتح باب القفص؛ لأن الحق في التعرف إلى الحرية يعني الحق في عيشها. لكن ظل باب القفص مفتوحاً طوال اليوم، لكنه لم يخرج، وحين حاولت إجباره على الخروج، بدا مذعوراً، تماماً كأنني أُرغم حراً على دخول القفص!
حين مددت يدي إلى القفص وسحبته خارجاً وأطلقته، بدا لي مرتبكاً ومضطرباً ولا يعرف ماذا يفعل. لم يحرك جناحيه حتى، وحين حركهما بدا كأنه يتعلم الطيران تواً؛ فهو لا يقوى على الطيران في هذا الفضاء المفتوح، يسقط أرضاً كلما قطع مسافة نصف متر، هي مساحة القفص.
شعرت بأنّ الحرية صارت بعد هذا الأسر الطويل عبئاً ثقيلاً عليه. لم يعد يكفي أن يرى أفقاً مفتوحاً أمامه وفضاءً حراً ورائعاً، بل يحتاج إلى جناحين قويين يستطيعان حمله على الطيران، جناحين لم يكن يستخدمهما إلا لمسافات ضئيلة، فكيف يجروء على الارتماء في الهواء هكذا؟! تبدأ الحرية حين يبدأ بتعلم الطيران، لا حين أفتح له باب القفص.
هل الحرية أن نعيش ما تعلمناه فقط؟ أم نتعلم أنها، أي الحرية، قبل أي شيء، في أن نكون أحراراً لنعرف أولاً ثم لنكون أحراراً في العيش كما عرفنا.