الهاوية لا غير هي ما تقترب إليه الأوضاع في مصر بثبات. لا يمر أسبوع دون أن يسجل فيه حادث أمني تزداد خطورته في كل مرة. وهذه المرة كانت مدينة «الخصوص» في محافظة القلوبية، التي تحولت إلى مسرح لفتنة طائفية جديدة ليست بطلتها شابة قررت اعتناق الديانة المسيحية أو الإسلامية، كما الأحداث التي اعتادتها مصر سابقاً أو تلاسن بين مسيحي ومسلم، بل رسم للصلبان المعكوفة على جدار معهد أزهري، فكانت النتيجة اشتباكات و5 قتلى، بينهم مسلم، فضلاً عن إصابة 10 آخرين وإلقاء القبض على قرابة 19 شخصاً حتى الآن.
وسرعان ما تحول تشييع الضحايا الأقباط أمس إلى سبب لسقوط قتيل سادس بعد تجدد الاشتباكات. وهي الاشتباكات التي امتدت آثارها لتصل لأول مرة الى بوابة المقر البابوي للكنيسة الأرثوذكسية، حيث التشييع، الأمر الذي بات ينذر بعواقب وخيمة، في ظل هتافات ضد الرئيس مرسي داخل الكاتدرائية، وهتافات من قبيل «قالوا علينا بلطجية وإحنا أصحاب الأرض ديه».
التشييع، الذي بدأ من مقر الكاتدرائية المرقصية بالعباسية بالقرب من وسط القاهرة، على وقع هتافات «يا نجيب حقهم يا نموت زيهم»، سرعان ما أدى إلى اندلاع اشتباكات أمام مقر الكاتدرائية بين عشرات المسيحيين لدى خروجهم من الكنيسة وبين مجهولين كانوا في حماية الشرطة، كما أفاد شهود، الأمر الذي أدى إلى وفاة مسيحي وإصابة ما يزيد على 70 شخصاً.
وتعود وقائع الأحداث إلى مساء الجمعة والساعات الأولى من صباح السبت الماضي، حينما نشبت مشاجرة بين مسلم ومسيحي على خلفية اتهام مسلم للمسيحي برسم شعار النازية «الصليب المعكوف» على أحد جدران معهد أزهري في مسجد في المنطقة، الأمر الذي أدى إلى نشوب مشاجرة تضاربت الروايات بشأنها. فوفقاً للروايات الأمنية وبعض أهالي المنطقة، فإن أحد أقارب المتهم المسيحي قتل المسلم، الأمر الذي أدى إلى تدخل عائلته وذويه، وهاجموا منزل المسيحي، فيما نادى أحد الأشخاص المسلمين من ميكروفون الجامع لحماية أنفسهم بعد واقعة تبادل إطلاق النار، الأمر الذي جاء بعده ملثمون وأشعلوا النيران في 3 منازل للأقباط وعدد من المحال وحضانة. وأصيبت الكنيسة الإنجيلية في المنطقة باحتراق جزئي، فيما أصيبت كنيسة مار جرجس الأرثوذكسية بأضرار كبيرة.
أما الرواية الثانية فيتبناها القمص سوريال يونان، راعي الكنيسة، ومفادها أن مسلمين مسلحين هم من بدأوا بإطلاق النيران، وأن إصابات المسيحيين برصاص في الصدر والبطن.
من جانبه، قال الأنبا رافائيل، سكرتير المجمع المقدس، في تصريحات صحافية خلال مراسم الجنازة في الكاتدرائية، والتي غاب عنها بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر، البابا تاوضروس الثاني، إن المسيحيين يوجهون 3 رسائل؛ أولاها إلى السماء التي يؤمنون بعدالتها وأن المسيح علّمهم بأنه ينتقم للشهداء. والثانية إلى مصر التي أكد عدم ترك الأقباط لها، حيث قال «ليس بانعدام الأمان تحكم البلاد»، أما الرسالة الأخيرة فكانت للأقباط حيث قال «لن نترك إيماننا، فسفك الدماء بالنسبة إلينا يجعلنا نتمسك بالإيمان وسنتمسك بأخلاق الإنجيل».
وبينما حاولت الكنيسة احتواء الموقف من خلال عدم صدور أي بيان تصعيدي لها، لاقاها شيخ الأزهر فأرسل مستشاره محمود عزب إلى مدينة الخصوص، ليجتمع مع أسقف شبين القناطر الذي تتبع له الكنيسة هناك، وذلك لتهدئة الأجواء في المدينة، واحتواء الأزمة.
أما رد الرئاسة فأثار الاستياء بعد تباطؤها في اتخاذ أي أجراءات لإنهاء الاشتباكات. وبينما أصدرت أول من أمس بياناً أكدت فيه التصدي بكل حزم لمحاولات إشعال الفتنة بين أبناء شعب مصر، عقد مرسي أمس اجتماعاً مسائياً مع مستشاريه لتدارس الموقف، وخصوصاً بعدما تجددت الاشتباكات داخل مدينة الخصوص، ما ينذر بارتفاع عدد القتلى والمصابين. أما حزب الحرية والعدالة، الذي ينحدر منه مرسي، فطالب كل أجهزة الدولة المعنية بالكشف عن هذه المخططات ومعاقبة مخططيها، فيما كانت قناة «مصر 25»، التابعة للإخوان، تروج بأن مسيحيين غاضبين يهاجمون الكنسية.
من وسط هذا المشهد، رأى عضو مجلس الشورى، سامح فوزي، في حديث مع «الأخبار»، أن ما حدث يعكس حالاً من العجز والتواطؤ التام من جانب كل العناصر الأساسية في المشهد لإحراق البلد، معتبراً أن متواليات الأحداث تكشف تحويل المعركة السياسية إلى معركة دينية، وأن دلالة ذلك كله هو تحلل مؤسسات الدولة.
وانتقد فوزي بيان رئاسة الجمهورية، معتبراً إياه «خارج السياق»، فهو يتحدث عن فتنة طائفية، بينما ما حدث هو اعتداء وإجرام ضد مواطنين، فعندما تدمر ممتلكات أو يحصل تعدّ على بيوت للعبادة، فهذه جرائم يُعاقب عليها قانون العقوبات.
وتوقع فوزي أن تتجه الأمور نحو مزيد من التدهور السياسي والاحتقان، ما لم يتدارك القائمون على البلاد الأمر عبر إقامة حوار وطني جاد، متوقعاً أن يتدخل الجيش إذا ساءت الأوضاع أكثر من ذلك لإنقاذ أركان الدولة قبل السقوط.
من جهته، رأى الباحث في شؤون المواطنة، سليمان شفيق، أن ما يجري الآن هو ما يجري عقب أي احتكاك أي مسلم بمسيحي منذ ما يزيد على 25 عاماً، إلا أنه قديماً قبل الانفلات الأمني في مصر، كان يمكن السيطرة على الأحداث في زمن أقل، بينما الآن لم يعد هناك سيطرة إلا بعد حدوث القصاص للأقباط من قبل المتشددين.
ووصف شفيق المجتمع بأنه بات في «حالة جنون»، مبيناً أن مخابرات دول عديدة تكشف الأحداث وجوداً لها في مصر، ومنوهاً بأن أطرافاً كثيرة مستفيدة مما يحدث. وأبدى شفيق تخوفه من «تجريف الوطن من الأقباط عبر تهجير قسري أو طوعي، وخاصة في ظل أرقام تتحدث عن وجود 200 ألف قبطي، ما بين مهاجر أو يتجه للهجرة من الوطن»، منبهاً الى أن مفهوم «الحرب الأهلية» لا يكون في مصر معناه فقط الاقتتال على خلفية طائفية، بل على خلفيات استقطابية متنوعة.