رام الله | خمسة وستون عاماً على مجزرة دير ياسين. كل تلك السنوات لم تكن كفيلة بأن تُنسي الحاج أبو طارق ما حدث. رائحة الزعتر المضرح بالدم في دير ياسين أقوى من أن يطويها النسيان. الحاج السبعيني كان لا يزال في الثامنة وقتها، لكنه كان واعياً بما يكفي ليدرك أن ثمة مجزرة على وشك أن تحدث. التاسع من نيسان عام 1948، ساعات قليلة قبل المجزرة، كانت قد وصلت إلى دير ياسين عندها أخبار ما حدث في قرية القسطل المجاورة قبل يوم واحد: «استشهاد عبد القادر الحسيني، وسقوط القرية التي تشرف على شارع (يافا ــ القدس) الاستراتيجي في أيدي عصابات الهاغاناه (الصهيونية)».
وبين الخوف والترقب، قضى الأهالي في قرية دير ياسين ليلتهم الأخيرة هناك. يصف أبو طارق تلك الليلة بالقول: «كنا في حالة حذر شديد. طُرقات القرية كانت خالية إلا من قلّة من المقاومين المسلحين تسليحاً خفيفاً. بقية الأهالي قضوا ليلتهم في البيوت. قريتنا كانت مسالمة، وقد وقّعت اتفاقية مع المستوطنات المجاورة، إلا أننا على عكس بعض القرى الأخرى المحيطة، أبينا إلا أن نمدّ يد العون لعبد القادر الحسيني ورجاله في القسطل، وهذا ما جعلنا نخشى انتقام العصابات الصهيونية».
قُبيل طلوع الفجر، بدأ الهجوم من عصابات «الأرغون» و«الشتيرن» على القرية من جبهات ثلاث: الشرق، والشمال، والجنوب. وبقيت الجبهة الغربية منفذاً وحيداً للهاربين من الموت المحتم. كيف عاش أبو طارق تلك اللحظات؟ يقول: «كنا نياماً. بدأ الهجوم عند الساعة الثالثة فجراً. استيقظنا على صوت القنابل والرصاص. كان القتال عنيفاً، لم نعهد هذا النوع من السلاح من قبل. طلب والدي من أمي أن تأخذنا إلى قرية عين كارم المجاورة، بينما بقي هو وأخي الأكبر مع المقاومين في القرية. قال أبي، مسألة يومين وتعودون».
لم يسلّم المقاومون، على قلة عددهم وعتادهم، بسهولة. استمر القتال حتى الصباح. وكانت الخسائر كبيرة في صفوف العصابات الصهيونية؛ أربعة قتلى وثلاثون جريحاً، ما دفعهم إلى الاستعانة بقوات «الهاغاناه» الموجودة في قلب القدس. وعندئذ، بدأ القصف على القرية يزداد ضراوة. وما هي إلا ساعات، حتى سلّمت القرية، بعدما استنفد المقاومون آخر طلقة لديهم. يقول أبو طارق: «استمرت المعركة حتى الساعة الرابعة عصراً، أطلق الأهالي نداءات استغاثة إلى قوات الجهاد المقدس في القدس، وإلى الصليب الأحمر، والجيش البريطاني، لكنها لم تلقَ صدىً. اقتحمت العصابات الصهيونية القرية بالمصفّحات، واستشهد عمي وخالي في المعركة. أما أخي، فقد جُرح وظل ينزف طوال طريق الهروب إلى عين كارم».
وكيف حدثت المجزرة؟ يجيب أبو طارق: «كانوا يقتلون كل ما يتحرك. يفجّرون البيوت بيتاً بيتاً. ولو لم ينفد الديناميت، لكانوا أجهزوا على كل من تبقى في القرية». يعتقد أبو طارق أن وصف «مجزرة» ليس كافياً ليحيط بحجم الجرائم التي ارتكبت في ذلك اليوم: «أعدموا الأسرى بالرصاص بين جفعات شاؤول والكسارات، وألقوا الجثث في بئر القرية». ومن بين كل فصول المأساة، يتوقف طويلاً عند قصة سميح زهران، رفيق طفولته، وابن جيله، يقول: «اجتمعت عائلة زهران في بيت واحد، نساءً وأطفالاً وشيوخاً، لعلّهم يجدون ذرّة رحمة في قلوب المعتدين. ألقت العصابات قنبلة على المنزل، فقتلت كل أفراد العائلة، إلا سميح، تظاهر أنّه ميت، الى أن جاء مبعوث الصليب الأحمر إلى المنزل، فسمع صوت نشيجه من بين الأموات. وهكذا كان سميح الناجي الوحيد من عائلته التي استشهد منها 25 شخصاً».
تختلف الروايات حول عدد ضحايا المجزرة، لكن أبو طارق، الذي كان رئيساً لجمعية دير ياسين، يقول إن عدد الشهداء بلغ 109، أي ما يعادل سدس أهل القرية التي كان تعدادها 700 نسمة تقريباً. 76 في المئة من الشهداء كانوا من الأطفال والنساء والشيوخ. وماذا عن الناجين؟ يجيب: «تجمعنا في قرية عين كارم المجاورة، وهناك نقلتنا سيارات الصليب الأحمر إلى منطقة باب الخليل في القدس، قبل أن نتوزّع؛ إشي راح على سلوان، إشي على العيزرية، إشي على أبو ديس، تفرّقنا يا ابني».
لا يزال أبو طارق يذكر طفولته المكبرة التي قضاها في دير ياسين جيداً. طرقات القرية وبيوتها ونواحيها التي غيّبها الاحتلال، لم تغب عن ذهنه. يتحدث عن أشجار الزيتون واللوز والبرقوق والمشمش، التي كانت في كل بيت في القرية، وعن أهل القرية الكادحين الذين كانوا يعملون في الكسارات، ويصنعون الحجر، وعن مدارس القرية التي لا يزال يذكر أسماء بعض مديريها: «أمين قطينة، وصبري الزيتاوي».
يتحدث أبو طارق عن زيارته لدير ياسين بعد النكبة. يحبس مع كل كلمة دمعة: «نعم، زرتها مرة واحدة بعد نكسة 1967. كل شيء تغير. معظم البيوت هُدمت.
وبيتنا الذي سلِم من الهدم، أصبح الآن غرفة في مصحة عقلية كبيرة بُنيت في المكان. عندما رأيته تذكرت أيام الطفولة. كان باب بيتنا كبيراً، وكنا في أيام الشتاء نفتحه ونضع القمح والبرغل داخل البيت، وننتظر العصافير كي تأتي ثم نغلق الباب، لنحصل على عشائنا لتلك الليلة». أطلق تنهيدة عميقة ثم تابع: «بي حنين كبير إلى تلك الأيام»، ما أقسى أن يتوق شيخ سبعيني إلى بئره الأولى.
قرية قالونيا وحمى الرعب
كان أحد أهداف مجزرة دير ياسين هو نشر الرعب في القرى المجاورة، لدفع أهاليها إلى الرحيل. في هذه الأثناء، بدأت العصابات الصهيونية تطمع أكثر فأكثر بالسيطرة على القدس. على بعد خمسة كيلومترات من قرية دير ياسين، كان أبو سليمان يحرس قرية قالونيا برفقة المقاومين من أبنائها: «كنا نحمل بعض البنادق الانكليزية القديمة، ورثناها من أيام الاستعمار». كان الشيخ الثمانيني قد بلغ السابعة عشرة من عمره، عندما جاء مُنادٍ من أقصى القرية ينبئهم بما حدث في دير ياسين. يقول أبو سليمان: «دبّت حمى الرعب بين الأهالي، وبدأ الناس يخافون، بالذات على الشرف، وما هي إلا ثلاثة أيام حتى كانت القرية خالية من سكانها».
وكيف حدث ذلك؟ يجيب: «بدأ الأمر عند منتصف الليل. كنا قد اشترطنا على اليهود في المستوطنة المجاورة ألا يوجّهوا ضوء كشافهم نحو القرية، لكنهم لم يلتزموا بذلك، فأطلقنا النار على الكشاف حتى أعطبناه. حينها بدأ الهجوم بالرشاشات والقنابل من جهة الشمال.
قال والدي: المعركة ستكون الآن على القدس. وقرّر أن نذهب إلى قرية بي سوريك المجاورة، ريثما تأتي الجيوش العربية المحرِّرة. كان الخوف يحاصرنا من كل الجهات؛ الخوف من الهجوم. والخوف من الروايات الآتية من دير ياسين. حاولنا المقاومة. سقط أربعة شهداء، لكننا لم نصمد أمام أسلحة اليهود المتطورة».
هكذا سقطت القسطل وقالونيا ودير ياسين في أيام قليلة. يتحدث أبو سليمان بحرقة عن «أيام البلاد».
ويستذكر صولات الصبا فيها :«بلادنا كانت جنة. كان أهل القرية فلاحين يزرعون معظم أنواع الأشجار المثمرة والحبوب. كنت أتناول حصاد أرضنا يومياً، وأسير به مشياً على الأقدام من القرية إلى باب العمود في القدس، وأبيعه هناك».
بعد أربعة وعشرين عاماً من النكبة، كان أبو سليمان قد قرر السير في ذلك الطريق مجدداً، لكن بشكل عكسي، من باب العمود إلى قرية قالونيا، يقول: «بعد النكسة كنت أقول إن البلاد قد تحررت الآن، لأنه أصبح بإمكاني رؤية دير ياسين؛ لم يكن هذا متاحاً في عهد الحكم الأردني، لكن الطريق تغيرت، وكل شيء في البلد تغير. البيوت مهدمة. الأراضي الزراعية الشاسعة شقوا شوارع ضخمة فيها».
وهل وجدت أحداً هناك؟ يجيب: «كان هناك مزارع يهودي عراقي، عندما رأيته أخبرته أنني سأعود إلى هذه الأرض يوماً، فردّ بعربية لثغاء: ماشي. إنتا بيجي هون وأنا بروح بغداد، وأطلق ضحكة ساخرة دوى صداها في المكان». وماذا عن البيت، هل زرته؟ يقول «لم أزر البيت، نظرت إلى أشجار الخوخ، فإذا الثمرة أقل من ضعفي حجمها على أيامنا. لم أصدق أن هذه قالونيا، ولم أحتمل المشهد، فقرّرت العودة».
عاد أبو سليمان يحمل الذكرى معه إلى المخيم. هذه ليست قالونيا التي عاش فيها طفولته، والتي لطالما كان يحدث أطفاله عنها في ليالي الغربة، ولعله أدرك بعد تلك الرحلة أن «البلاد» لا تزال محتلة.
خمسة وستون عاماً مرّت على المجزرة. شاخ الرواة ولا تزال الحكاية غضة كما شاهدوها. في ذاكرة كل منهم يتجسد قول محمود درويش: «خوف الطغاة من الذكريات». يعيش أبو طارق اليوم في قرية بيتونيا غربي رام الله، ويعمل مرشداً في إحدى المدارس هناك. أما أبو سليمان، فقد ألقت به الأقدار إلى مخيم عسكر القديم قرب نابلس. ورغم أنه أصبح يملك بيتاً في المدينة، يتردّد على المخيم يومياً، ربما لكي لا ينسى أنه لاجئ. تمرّ عيناك وأنت تسير في المخيم على أبنيته المتراصة والمبنية على عجل، وعلى أزقته الضيقة، وأطفاله الذين يكبرون وتكبر أحلامهم بقدر ما تضيق عليهم بيوت «الزينكو» والطوب، فتتذكر قول أحدهم: «إذا لم أكن لاجئاً يوم تركت حيفا، فأنا اليوم لاجئ».



شهادات للقتلة

يقول الضابط السابق في «الهاغاناه»، العقيد مير بعيل، بعد تقاعده من جيش الاحتلال في 1972، في شهادة نُشرت في صحيفة «يديعوت أحرونوت» في 4 نيسان 1972: «بعد المعركة التي قُتل فيها أربعة من «الأرغون» وجُرح عدد آخر، توقّفت المعركة بحلول الظهر وانتهى إطلاق النار. وعلى الرغم من حلول الهدوء، لكن القرية لم تستسلم. رجال «الأرغون» خرجوا من مخابئهم وبدأوا بعملية تطهير للبيوت. ضربوا كل من رأوا، بما في ذلك النساء والأطفال. لم يحاول القادة إيقاف المذبحة، توسّلت إلى القائد بأن يأمر رجاله بإيقاف إطلاق النار، لكن بلا جدوى. في أثناء ذلك حُمّل 25 عربياً على شاحنة وأُخذوا أسرى. في نهاية الرحلة، أُخذوا إلى مقلع للحجارة بين دير ياسين وجيفعات شول، وقُتلوا عن عمد. القادة رفضوا أيضاً أن يُساعد رجالهم في دفن 254 جثة للقتلى العرب. هذا المهمة غير السارة قامت بها وحدتان جُلبتا إلى القرية من القدس».
آمر وحدة «الهاغاناه» التي احتلت دير ياسين بعد المذبحة، زفي أنكوري، يقول في شهادة نُشرت في «دافار» في 9 نيسان 1982: « دخلت من 6 إلى 7 بيوت. رأيت أعضاءً تناسلية مقطوعة وأمعاء نساء مسحوقة. طبقاً للشارات على الأجسام، لقد كان قتلاً مباشراً».