دبّت الفوضى في بغداد منذ عشر سنوات. بدأت عمليات النهب لتشمل المتحف الوطني والوزارات. حلّت المأساة لتضاف إلى بشاعة الحرب، فكان الخبر فاجعة على العراقيين ونقطة سوداء لا تغتفر للأميركيين. استعجل الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش، فريقاً من الـF.B.I للتحقيق بسرقة المتحف.
مرّت عشر سنوات ولم تنشر بعد نتائج التحقيق للعراقيين، رغم أنّ المسؤول عن القضية، المدعي العام السابق والكولونيل في الجيش ماثيو بوغدانوس، نشر كتاباً عن مهمته في بغداد وجال في محاضرات على العالم أجمع لإشراك الجماهير قصته الهوليوودية، فكاد أن يصبح إنديانا جونز جديداً! رغم كل ذلك، لم يقف يوماً وزير أو مسؤول عراقي ليشرح نتائج التحقيقات. وبقي الغموض يلفّ القضية. من هم هؤلاء السارقون المحترفون، وكيف دخلوا المتحف، وكيف عثروا على مفاتيح المخازن، وأين بيعت هذه القطع، وما هي الكمية الفعلية؟ أسئلة بقيت دون أجوبة.
عالمة الآثار العراقية المخضرمة والمقيمة في لندن، الدكتورة لمياء الكيلاني، تشرح أنّ الوضع اليوم في المتحف العراقي في تقدّم بطيء جداً. فخلال زيارتها بغداد في الأسابيع الماضية، جالت على القاعات التي لا تزال مغلقة. وتقول بتأثّر كبير: «المتحف غير جاهز لاستقبال الزائرين؛ فالقطع الصغيرة غير معروضة، وبطاقات التعريف غير موجودة. بالفعل، لقد أنجز الفريق الإيطالي من مركز «سكافي» في تورينو القاعات الإسلامية، ويعمل اليوم على إعادة تأهيل القاعة الآشورية، التي ستكون رائعة».
ويشير البروفسور ماغواير غيبسون من جامعة شيكاغو إلى أن «المتحف قد جهز بكافة الآلات الضرورية للتحكم بالحرارة داخل جدرانه، وأعيد تصميم جهاز الإضاءة، لكن يبدو أن عملية الافتتاح موقتة وتنحصر بالاحتفالات السياسية الكبرى». فمنذ اندلاع حرب الخليج الأولى والثانية، وخلال الاحتلال الأميركي، اتبع المتحف مبدأ افتتاح قاعاته لمناسبات سياسية فقط. ففي سنة 2003 افتتحت القاعات لساعات معدودة ليطمئن الحاكم الأميركي إلى كنز نمرود، وفي سنة 2009 افتتح ليوم واحد فقط، وذلك لاستقبال رئيس الحكومة.
صحيح أنّ الوضع الأمني لا يسمح بالمجازفة، لكن الكيلاني تؤكد «أن العمل بطيء لدرجة يصعب فهمها. فالقاعات مثلاً يجري تأهيلها مجدداً بحجة تغير طريقة العرض. واليوم يعاد العمل بالقاعة السومرية التي كانت قد أنجزت قبل سنين. عودة إلى نقطة الصفر. أما بالنسبة إلى لائحة جرد القطع الأثرية، فالعمل جارٍ فيها منذ أربع سنوات، ولم ينجز بعد إلا أرشفة 40.000 قطعة من أصل مجموعة تتجاوز الـ250.000». لكن من ناحية ثانية، انتهى العمل في المخازن، وباتت مكاتبها وخزائنها الحديثة جداً تنتظر التحف.
يتساءل بعض العلماء عن أسباب بطء العمل، وفيما يحاول عدد منهم أن يتفهم الوضع، يبرّر أنّ الهيئة العامة للآثار والمتاحف كانت في السنوات الماضية تتأرجح بين وزارتين: الثقافة والسياحة. ففي حين أنها قانونياً تتبع الأولى، ولكنها في التوزيعات الوزارية أُلحقت بالسياحة، ما أدى إلى فوضى إدارية. هذا بالإضافة إلى الميزانية السنوية التي لم تكن تحترم، فتعطى الهيئة 20% مما تطلب! لكن الوضع تغيّر أخيراً؛ إذ أُنشئت وزارة السياحة والآثار، وارتفعت الميزانية السنوية للمتاحف والتنقيبات، وارتفعت الرواتب وبدأت عملية توظيف جديدة. خطوات تحثّ على ديناميكية أعلى، لكنها لم تحصل. كيلاني تبرّر ذلك بأنّ «المشكلة تكمن في أن المتخرجين الجدد درسوا في فترات الحروب التي اتسم فيها العلم في العراق بتدني المستوى العلمي. فالقسم الأكبر من الموظفين يتقنون العربية فقط، ما يجعلهم غير قادرين على متابعة ما يجري في عالم المتاحف والآثار من تطوّر وتغيّر، وغير قادرين على إقامة أبحاث ومتابعة دراسات عالمية». ويؤكد علماء آثار آخرون أنّ الوزراء يحاربون قسماً من العلماء العراقيين الذين يدرسون في الجامعات الأميركية والبريطانية، بحجة أنها معاقل الاحتلال.

تأهيل مدخل المتحف

الورشة قائمة على مدخل متحف بغداد. العمال ينجزون التصميم الجديد لأحد أهم معالم العاصمة: نسخة طبق الأصل عن بوابة عشتار التي كانت تزيّن مدخل مدينة بابل. فالمصمم قرر أن يعيد إلى بغداد نسخة عن البوابة الزرقاء المزينة بمنحوتات لحيوانات، التي تعرض اليوم في متحف برلين. ولكن المشروع يُعَدّ من وجهة نظر المهندسين والآثاريين تشويهاً لأحد أهم معالم العاصمة. وتقول لمياء الكيلاني «إنّ مدخل متحف بغداد صمّم عام 1936 وأنجز في 1950، ويقوم على احترام تقنيات البناء منذ الفترة البابلية. فلم يستعمل في البناء إلا الطين المجفف، في حين أن البناء الحالي سيكون من الباطون، وهو سيئ التصميم، ويشبه إلى حدٍّ كبير تصاميم عالم ديزني المزيفة». والمتحف من أقدم معالم العراق المعاصر، بات مدخله جزءاً من هوية المدينة، وتعديله يُعَدّ من المساس بها، وصمدت الواجهة في وجه كل المتغيرات والحروب... إلا إن أزالتها الحداثة الرخيصة.

شمعة دوني يوحنا للتراث

سنة 2007 أطلق مدير المتحف العراقي السابق، الراحل دوني جورج يوحنا، مبادرة «شمعة لمتحف بغداد» بالتعاون مع منظمة SAFE (حماية الآثار للجميع) الأميركية. ولاقت المبادرة تفاعلاً كبيراً في الأوساط المختصة والجامعية. فعلى مدى 24 ساعة أضيئت الشموع في العالم أجمع. فقرّرت الجمعية إحياء ذكرى سرقة متحف بغداد بتثبيت هذا التقليد سنوياً. لكن وفاة الدكتور دوني في كندا قلبت المقاييس. فالمبادرة باتت بهدفين: الأول لتذكر مأساة متحف بغداد، والثاني لإبقاء ذكرى دوني حيّة بعد كل الجهد الذي قام به لإنقاذ المتحف وآثار بلاده. فبعدما أجبرته منظمات إسلامية على مغادرة العراق بعد تهديدهم بقتل أولاده، التحق دوني بجامعة «ستوني بروك» الأميركية وبقيَ يناضل لإعادة القطع الأثرية المسروقة إلى العراق. وتكريماً له، حولت المنظمة مبادرة شمعة متحف بغداد إلى شمعة لدوني جورج.



المواقع الأثرية... و«حصّة» كردستان

على صعيد المواقع الأثرية، يقول البروفسور غيبسون، الذي يُعَدّ مرجعاً عالمياً في مراقبة وضع المواقع الأثرية العراقية، إنّ «المشكلة الأكبر تكمن في المشاريع الإنمائية، والبناء العشوائي وتوسع الأراضي الزراعية». أما بالنسبة إلى السرقة، فيؤكد غيبسون «أنها مستمرة ولكن بمستويات أقل مما كانت عليه». ولمواجهة كل هذا الواقع، يعوّل العراق على عودة الحفريات الأثرية العلمية مع الجامعات الغربية.
البعثات ما زالت قليلة، وتتّكل بشكل أولي على المبادرة الفردية للأساتذة. هناك بعثة أميركية وأخرى بريطانية وأخرى إيطالية في جنوب العراق، كل منها تعمل على موقع سومري صغير. وبالطبع هناك بعثات التنقيب الأثرية العراقية التي تعمل في أكثر الأحيان على المواقع المهددة بالسرقات أو عمليات التوسع. ويأتي إقليم كردستان ليكون الرابح الأكبر من هذه الأزمة. فالوضع الأمني فيه مستتب، ومكاتب الهيئة العامة للآثار (التي انفصلت عن بغداد) شرّعت أبوابها أمام البعثات الدولية وسهّلت عملهم، فتحولت الفرق إلى كردستان، حيث تنقب اليوم 38 بعثة أثرية دولية، لم تتأخر مكتشفاتها في إعطاء متاحف الإقليم نفحة جديدة.