خلال الأسابيع الماضية، تغيّرت حركة الجيش السوري. بات أداؤه مفاجئاً للمجموعات المسلحة التابعة للمعارضة، ولداعميها. ثمة ما تبدّل في الميدان. حركة التراجع التي أصابت قوات النظام حتى نهاية تشرين الثاني الماضي طُوِيَت، بحسب مصادر سورية. وباستثناء منطقة درعا، يتقدّم الجيش السوري على أكثر من محور. في ريف دمشق، انتقل من الدفاع إلى الهجوم. طوّق الغوطة الشرقية، مستهدفاً رفع الخطر العسكري المباشر عن العاصمة. وبحسب متابعين لما يجري في أرض المعركة، فإن الجيش يعتمد تكتيكات جديدة تهدف إلى جعل المسلحين في حالة دفاعية. وبدل أن تكون قوات المعارضة تعدّ العدة للهجوم على دمشق، باتت مضطرة إلى حصر اهتمامها بالدفاع عن نفسها، وبمحاولة التعويض عن «الهجوم الشامل» بعمليات أمنية، سواء ضد المسلحين أو ضد مراكز وشخصيات مفصلية في الدولة. الأمر لم يقتصر على دمشق وريفها. فقد نفّذ الجيش السوري عدداً من «الهجمات الناجحة» في حلب وريف حمص. في الأخيرة، توضحت خلال الأيام الماضية خطط النظام: فصلُ القصير بشكل تام عن مدينة حمص. فمدينة القصير تمثل واسطة العقد بين لبنان وحمص وريف دمشق. وعزلُها وإشغال المسلحين الذين يسيطرون على معظمم أحيائها بالدفاع عنها، سيضعفان قدرتهم على دعم زملائهم الموجودين في حمص، كما سيزيدان من تحصين طريق دمشق ــ حمص، ويقطعان طريق الإمداد عن جزء من ريف العاصمة الشمالي. ولعل أبرز ما حققته قوات النظام خلال الأيام الماضية كان في محافظة إدلب، حصن المعارضة المفتوح على لواء الاسكندرون والأراضي التركية. وأكثر ما يحمل دلالة على ذلك هو فك الحصار عن معسكر وادي الضيف المحاصر منذ أشهر في قلب تلك المحافظة. ثمة في دمشق من بدأ يطمح إلى فك الحصار عن كل «الجزر» التي يحاصرها المسلحون. فتجربة وادي الضيف، وقبلها عدرا (في ريف دمشق)، وغيرهما، «أثبتت القدرة على تنفيذ ذلك بسهولة نسبية».
في درعا اختلف الوضع. شهد الشهر الماضي تراجعاً في انتشار الجيش في بعض المناطق، مع تقدمه الجزئي في بعضها الآخر. وبحسب مصادر سورية رفيعة المستوى، «حصلت أخطاء عملياتية جرت محاسبة المسؤولين عنها. التراجع العسكري الذي ظهر في الآونة الماضية، والذي كانت نتائجه موجعة، توقف. وما حصل في المناطق الأخرى، سيجري اتباعه في درعا، حيث ستظهر النتائج الإيجابية قريباً».
لا أحد من متابعي الحدث السوري يمكن أن يبالغ إلى حد القول إن النظام يتجه لحسم الموقف عسكرياً. لا مجال لذلك من دون اتفاق سياسي إقليمي ودولي كبير. ما جرى حتى اليوم كناية عن «تراكم لنجاحات تكتيكية، لها مفاعيل استراتيجية». وبعد نحو سنتين من القتال، صار لدى القوات المسلحة السورية القدرة على التكيف الميداني لتدرس نقاط قوتها وقوة أعدائها، ومكامن ضعفها وضعف أعدائها. أبرز مكامن ضعف الجيش السوري ظهرت في تحركه في عدد كبير من المناطق، من دون تغطية استعلامية وافية. جرى سد هذه الثغرة. لم يعد الجيش أعمى، ولا عاد المعارضون قادرين على التهويل بأعدادهم وتضخيمها للتأثير سلباً على من سيقاتلهم.
ويؤكد متابعون للميدان السوري أن «المسار التصاعدي الذي يتبعه الجيش في معظم المناطق، لن يتوقف قريباً، بل سيجري تزخيمه مع مرور الوقت».
الجهات الدولية الساعية إلى إسقاط النظام السوري تدرك أكثر من غيرها حقيقة ما يدور على أرض الواقع. بعد ما تحقق في ريف دمشق، كان دبلوماسيون غربيون في بيروت يتحدّثون عن «حركة معزولة». لاحقاً، وعقب ورود التقارير من بلادهم، صاروا يعترفون بتقدم قوات النظام في عدد كبير من محاور القتال. الولايات المتحدة الأميركية كانت الأسرع في التقاط الإشارات الصادرة من الميدان السوري. مدير مجمع استخباراتها، جيمس كلابر، قال إن القتال في سوريا لا يمكن أن يتوقف حتى لو سقط النظام، بحسب ما نقلت عنه صحيفة واشنطن بوست قبل أيام. حتى روبرت فورد، سفير واشنطن في دمشق، عاد إلى الحديث عن «تنحّي (الرئيس بشار) الأسد طوعاً». وخلاصة ما نقلته الصحيفة عن مسؤولين سياسيين وفي الاستخبارات الأميركية هي أن الرؤية تجاه سوريا «مشوشة» لدى صناع القرار في واشنطن.
هل تدفع هذه التطورات الولايات المتحدة إلى طاولة مفاوضات، بعدما صار شديد الصعوبة تحقيق رهانات إسقاط النظام في «غضون أشهر»؟ أم أن واشنطن ودول الخليج ستندفع نحو رهانات جديدة لا تُنتِج سوى مراوحة ميدانية والمزيد من الدم والدمار؟
زوار الرئيس السوري يتحدّثون عن «معنوياته المرتفعة». فالرجل يدرك جيداً حدود قوة خصومه وهامش قوة حلفائه التي لم تُستَخدَم كاملة بعد.