غزة | يبدو أن تعاطي الترامادول في قطاع غزة ليس مرتبطاً بالناس البسطاء، أو الذين يعانون من فقرٍ أو قلةِ حيلة أو مشاكل مستمرة شخصية كانت أو حياتية، بل هذا المُخدّر رفيق مزاجات الناس، رغم اختلافاتهم وقناعاتهم ومستوياتهم المعيشية، حتى الأطباء، أعلمُ الناس بأضرار الترامادول، يتعاطونهُ في غزة.
لعل إحدى الحالات التي التقتها «الأخبار» خير معبّر عن هذا الواقع المزري، لكن المفارقة أن هذه حالة قد تكون غريبة بالنسبة إلى القارئ؛ إذ كيف لولد أن يعطي أمه حبة مخدّر؟ هذا ما ترويه إحدى نساء غزة قائلة: إن «تجربتي مع الترامادول من زوجي، أنا مريضة سكري، وعندي مشاكل مع أولادي، اثنان منهم في سن مراهقة. أنا مضغوطة اقتصادياً وتخرجت وما توظفت، عمري 45 سنة درست متأخرة ولا مرة فكرت أني ممكن ألجأ في حياتي إلى المهدئات والمسكنات أو أي نوع من أنواع المخدرات. لكن مرة كنت تعبانة كتير أجا ابني وأعطاني حبة وحكالي هاي رح تريحك. حكتلوا شو هاد الحبة؟ حكالي حبة للصداع بس مريحة. أخدتها وارتحت وحسيت حالي مسترخية، ولكن في آخر النهار حسيت بصداع كبير صرت إسألو شو الي أعطاني اياه، قال لي ترامال، قلتلوا كيف انت بتعطيني ترامال؟ هاد مخدرات».
تُكمل لنا السيدة المدمنة صدمتها وتتحدث والشوك مغروسُ في حنجرتها، من هنا بدأت الأسئلة: «من وين جبتها؟ حكالي أنا بترمل (بتعاطى الترمادول) أصلاً وبتاجر فيه. أنا كتير تضايقت رغم كل المشاكل الي عنا وابني عايش هيك».
من هنا بدأت الحالةُ تَكبر، وبدأت الصدمات تتوالى على قلب الأم، ففي يوم من الأيام حدثتنا أنها قامت بمشادة كلامية مع زوجها، وتطور الأمر ليصبح مشكلة كبيرة، فأراد الزوج أن يهدئ زوجته فأعطاها حبة «ترامال». تُكمل الزوجة السرد: «بعدها صرت أنا الي اطلبوا ولما زوجي ما يعطيني بروح لإبني وبطلبوا منوا، بس زوجي أحياناً كان يقولي هاتي حق الترامال، وبدبر مصاري، وبعطيه حقو». تضيف: «صرت ضايعة. ابني بيتعاطى وبيتاجر في الترامال، وابني التاني في الثانوية وصار يتعاطى بالسر. أنا وزوجي بنتعاطى. بنتي الصغيرة صارت تحكي بالمزح أحسن حاجة الواحد يترمل ويرتاح من هم المشاكل. عمرها لسه 12 سنة».
لم يعد هناك خصوصية في تعاطي المخدرات، علناً هكذا، في جلسة عشاء عائلية، فالأم كأنها تضع السكر في الشاي، تضع حبة المخدر في دمها، لذا كان لا بد من العودة لوقفة عقلية تراجع الأم بها حساباتها، وما آلت إليه حالها، إلا أن المشاكل لم تتركها وجرتها إلى العادة الدائمة للبحث عن خلاصها من التعب، بالقليل من وهم الهدوء في الترامادول.
هنا أصبحت تشكو المرض، تقول: «نزل وزني نحو 15 كيلو، وصار عندي انسداد في الشهية وبطّلت آخد علاج السكري».
لكنها تؤكد قائلة: «نفسي ابطلو بجد، لكن مش عارفه كيف بدي ابطلو، أنا إذا بطلت رح إقدر أقنع زوجي وابني، مش أنا الي اطلب من ابني المفروض اني أعاقبوا، صار ينط ع بيوت جيرانّا ويسرق عشان يجيب الترامال، حسيت إنو أنا وأبوه السبب. المفروض أنا وزوجي نكون في السجن مش ابننا الكبير».
مريضة أخرى تقول: «أنا ممرضة، زوجي بيتعاطى الترامال، وصرت أتعاطى متلو». (نائلة. م) تبلغُ من العمر 27 عاماً، بدأ إدمانها قبل عامين، كانت ضحية الزواج للمرة الثانية، لتكون أيضاً الزوجة الثانية في حياة زوجها. في إحدى الليالي كانت تعاني من تعبٍ ومرض ما، طلبها زوجها للفراش، لم تستطع، أصر عليها، لم تستطع، أعطاها حبة ترامادول، شعرت باسترخاء وهدوء، نامت مع زوجها. من ثم أصبحت عادتها الدائمة كلما طلبها زوجها. تقول نائلة: «صرت أنا أطلب الترامال منو وأخد بدل الحبة أربع في اليوم الواحد، ومش قادره اتخلص منو، مع اني ممرضة وعارفة شو المشاكل الي بيسببها تعاطي الترامال».
لا يجد الشباب في غزة إلا العقاقير المخدرة للتغلب على أوضاعهم الصعبة التي يعيشونها، فالشاب (رامي أ.) يعيش في منزل متواضع في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لجأ إلى الترامادول ليساعده «على الاسترخاء ونسيان المشاكل»، كما يقول. ويشير إلى أن الترامادول أكثر صنف «بحبو لأنو بريحني وما بكلف كتير بالنسبة إلي».
وجهُ رامي (27 عاماً) دائم الشحوب، ليس لديه دخل مادي، وهو عاطل من العمل، والده مريض، وتخرج من الجامعة بامتياز من قسم المحاسبة. بدأ رامي بالبكاء، عندما سألناه عن أكثر شيء يزعجه في حالة تعاطيه الترامادول، فقال: «أنا بحلم كتير اتزوج، بس مش قادر أعمل هالشي، ظروفي صعبة كتير، وعايش في بيئة كلها مشاكل».
الاختصاصي النفسي في عيادة تل السلطان في رفح، الدكتور يوسف عوض الله، أوضح لـ«الأخبار» أن «هنالك الكثير من النتائج والآثار التي لا نستطيع إظهارها أو كشفها جراء الاستمرار في تناول مخدر الترامادول أو ما يُعرف بالترامال، فما يحدث من أمراض ومشاكل في الجسد جراء تعاطيه لمدة سنتين تختلف عن تعاطيه لما يزيد على عشر سنوات، ولا نستطيع كشفها، وخصوصاً أن أغلب متعاطي الترامال في غزة بدأوا تعاطيه في السنوات الأربع أو الثلاث الأخيرة مع زيادة استخدام الأنفاق وسهولة تهريب البضائع عبرها».
ويؤكد عوض الله أن هذا العقار حظرته منظمة الصحة العالمية في عام 1985، لأنه يفرز هرموناً في الدماغ يسمى «نيروثاتين» يسبب شعوراً بالسعادة والراحة والنشوة لدى الأفراد، مضيفاً أنه أُضيفت مركبات مخدرة أخرى إلى العقار لزيادة التأثير. وبيّن الطبيب المختص أن هذا العقار شديد الخطورة على الجسم؛ فهو «يسبب الإدمان وتصلب الفكين وفقدان الشهية ومشاكل في الدورة الدموية، فضلاً عن فشل كلوي حاد وأمراض أخرى». وحذر من تناول مثل هذه العقارات التي تصنع وتوزع بطريقة غير شرعية وفي أماكن مجهولة وبطريقة ربما تشبه نظام عمل العصابات، داعياً الشبان إلى الكف عنها.




الحكومة ستضرب بيد من حديد!

يرى منير البرش، المدير العام للصيدليات في وزارة الصحة التابعة لحكومة حماس برئاسة إسماعيل هنية، أن الترامادول هو مسكن للألم الحاد، وهو موجود في المستشفيات والعيادات والصيدليات، ويصفه الأطباء للحالات الخطيرة، وقد انتشر لدى الجمهور لأنهم استخدموه للوصول الى النشوة. وعن تأثير هذا الدواء، يقول البرش: «الاكتئاب، والقلق، والأرق، وفقدان الأمل، والندم على تناوله، أما بالنسبة إلى المدمنين المزمنين، فقد يكون هناك فقدان في التنسيق، بالإضافة إلى المشاكل الجنسية وحتى العقم».
وعن دور وزارة الصحة في مساعدة المدمنين على التخلص من الترامادول، يقول البرش: «نظراً إلى أنّ البطالة واحد من الضغوط الأولية الرئيسية، نحاول مساعدة المدمنين السابقين على العثور على عمل، وتشجيعهم على التحلي بالصبر في البحث عن عمل، لا التخلي عنه أو الاستسلام لليأس».
بدوره، يؤكد المدير العام لإدارة مكافحة المخدرات في الشرطة الفلسطينية في غزة، أحمد القدرة، أن العام الحالي شهد تطوراً في الضبط والسيطرة على القطاع وحدوده لمنع إدخال المواد المخدرة إليه، مضيفاً أن إدارته عملت وستعمل على الضرب بيد من حديد على كل من يقوم بنشر هذه الآفة وترويجها داخل المجتمع الفلسطيني.