القاهرة | ثمة رؤية مختلفة للناشطين الذين خاضوا يوميات الثورة المصرية منذ يناير/كانون الثاني عام 2011، تجاه أهل الصعيد في الجنوب، باتهمامهم بأنهم تقاعسوا عن المشاركة في الثورة التي خلعت نظام حسني مبارك. رؤية ارتبطت بصورة نمطية عن الإنسان الصعيدي: قلة مستوى التعليم، وقوة الروابط التقليدية كالعائلات والقبائل، فضلاً عن التعميمات المطلقة بخصوص الاستغلال السياسي للعمل الخيري من قبل الإسلاميين، وذلك لحاجة أهل الصعيد وارتفاع معدلات الفقر بين غالبيتهم.
متلازمة المركزية والتهميش

الحقيقة أن الحكم على الشيء جزء من تصوره، كما هو سائد في أدبيات الفقه الإسلامي، وأن تصورات أهل القاهرة والمدن الكبيرة عن الثورة وعن الفاعلين فيها شُكِّلَت في ضوء تدفق المعلومات والتغطية الإعلامية المنحازة مركزياً، بحيث اختزلت الثورة في ميدان التحرير ومحيطه، في شارع محمد محمود، وأمام مقر مجلس الوزراء وناحية مبنى الإذاعة والتلفزيون على كورنيش النيل القريب من الميدان.
وقبل أن تتحرك المواجهات الثورية مع السلطة في اتجاه العباسية، إبان حكم المجلس العسكري، حيث مقر وزارة الدفاع، أو القصور الرئاسية في الاتحادية وسراي القبة بعد انتخاب محمد مرسي، أو حتى مقر مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين في المقطم، لم تكن وسائل الإعلام تتناول من الفعل الثوري خارج القاهرة إلا الإسكندرية والسويس، وقليلاً نادراً من المدن الأخرى.
وإذا عرفنا أن غالبية أهل مصر، حين يقصدون السفر إلى القاهرة، فإنهم يقولون إنهم ذاهبون إلى «مصر»، أمكننا أن نفهم المركزية الشديدة التي تتسم بها الدولة المصرية، والتي أكدها نظام الحكم العسكري عقب انقلاب الضباط الأحرار عام 1952. فالأحزاب والحركات السياسية التي تنال لقب «وطنية» يسود فيها التنظيم المركزي الذي يضع كافة المحافظات تحت إشراف شخص واحد ومتابعته، يكون في الغالب عضواً في أعلى هيئة تنسيقية/تنظيمية مع ممثلي اللجان النوعية المركزية (القاهرية).
ولأسباب سياسية وتجارية مفهومة، يرتبط وجود وسائل الإعلام المملوكة للدولة بمركزية صنع القرار، وتفرض التوجهات الإعلانية والتسويقية نفسها على وسائل الإعلام الخاصة، وتكون المحصلة في النهاية عدم بث أية قناة فضائية من خارج العاصمة، وعدم إصدار أي صحيفة، ولا حتى موقع إلكتروني «وطني»، من أقاليم مصر المختلفة. وصار الأصل في الرأي العام اختزال ما هو «وطني» أو «مصري» ليكون قاصراً على ما تنعم به وسائل الإعلام وتنقله من القاهرة.

خريطة متجاهَلَة

هي الحقائق التي تختبر ثنائية «الحضر – الريف»، التي حاول بعض الباحثين أن يفسروا وجود الفعل الثوري وغيابه في ضوئها، حيث اعتبروا الثورة مدينية بالمقام الأول، وأن الريف هو معقل الثورة المضادة وشبكات المصالح الداعمة لفلول النظام مخلوع الرأس.
فبعيداً عن وادي النيل، بحضره وريفه، يصف عالم الاجتماع الراحل جمال حمدان، صاحب كتاب «شخصية مصر» الشهير، شبه جزيرة سيناء بأنها أنموذج مصغر لمصر يجمع خصائصها وتنوعها، ويعكس أحوالها السياسية والعسكرية. وهو ما ينطبق على المشهد الثوري في مجمله، إذا سلّمنا بفرضية أن جنوب وادي النيل لم يشارك في الفعل الثوري. فإذا استبعدنا أحداث بورسعيد الأخيرة في كانون الثاني وشباط 2013 من اعتبارنا في هذا المقام، فإنه يمكن الجزم بأن السلاح الثقيل لم يظهر في الثورة التي اتسمت في عمومها بالسلمية إلا في شمال سيناء، جنباً إلى جنب مع التظاهر السلمي والمقاومة غير العنيفة، فيما اتسم جنوب سيناء بالهدوء المريب.
يمكن تقسيم سيناء جغرافياً إلى شمال ساحلي زراعي وتجاري، ووسط صحراوي، وجنوب جبلي سياحي وصناعي. ويمكن تصنيفها ديموغرافياً إلى حضر وريف وبادية. والريف في سيناء في أصله بادية صحراوية جرى استصلاحها، وبذلك ينقسم السكان إلى عائلات حضرية سيناوية (متركزة في العريش عاصمة شمال سيناء)، وقبائل بدوية، ووافدين من وادي النيل في أعمال إدارية وصناعية وسياحية مختلفة.
وهنا تنهار ثنائية «الحضر – الريف» ولا تصمد لتفسير العنف الثوري في مدينتي الشيخ زويد ورفح شمالاً، الذي تجاور وترافق مع السلمية الثورية في مدينة العريش الحضرية، فيما أطبق الصمت على الجنوب بباديته وحضره على حد سواء، اللهم إلا حين اعترض بعض أبناء القبائل على وجود مبارك، بعد خلعه، في مستشفى مدينة شرم الشيخ وهددوا باقتحامها في ربيع 2011.

الثــأر والثورة

«سيبني يا عمي سعيد.. أمين الشرطة ضربني كف ولازم أرده له»، جملة لم يتوقع الناشط سعيد اعتيق، أن يسمعها بكل هذه المرارة من طفل لم يتجاوز عمره اثني عشر عاماً حين حاول ثنيه عن تصدر الصفوف الأولى للاشتباكات مع قوات الشرطة أمام قسم الشيخ زويد يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011.
يستحضر اعتيق هذا الموقف من ذكرياته عن الأيام الأولى للثورة، مشيراً إلى قسم الشيخ زويد ذي المبنى الهائل، الذي لا يتناسب حجمه الضخم مع 55 ألف نسمة، هم إجمالي تعداد المدينة وكل القرى التابعة لها.
في هذا المبنى رأى مواطنو الشيخ زويد ورفح الأهوال والويلات على أيدي سفاحي مباحث أمن الدولة، بل وصل الأمر لاعتقال ما يقرب من 10 في المئة من السكان في اللحظة نفسها عقب تفجيرات شرم الشيخ.
كان الضابط يقف على ناصية السوق، آمراً أفراد قوته باعتقال «كل هؤلاء التكفيريين أولاد الـ...»، كما يقول الشيخ أبو فيصل، أحد قضاة لجان فضّ المنازعات الشرعية في مدينة الشيخ زويد، واصفاً الاعتقال العشوائي لكل ملتحٍ، الذي اتبعته شرطة مبارك، بما يسمى توسيع دائرة الاشتباه.
ويشدد الناشط الحقوقي مصطفى الأطرش، من قبيلة الترابين، على الثأر البائت بين بدو المنطقة الحدودية الشمالية والشرطة، وذلك بسبب احتجاز نسائهم رهائن والتهديد باغتصابهن للضغط على ذويهن المطلوبين أو المعتقلين بالفعل، وهو ما عدّه البدو تخطياً لكل الخطوط الحمراء، وتهيأت نفوسهم للانتقام في أقرب فرصة، فانتفضوا عدة مرات في 2007 وما بعدها لكن بطابع سلمي وقتها.
ورغم البداية السلمية لتظاهرات البدو في الشيخ زويد يوم 25 يناير/كانون الثاني، بالتزامن مع نظيراتها في العريش (على بعد 30 كيلومتراً)، وسائر المدن المصرية، إلا أن سقوط أول شهيد سيناوي برصاص الأمن يوم الأربعاء 26 كانون الثاني كان كفيلاً بانتهاء عهد المقاومة غير العنيفة، لتحل الحجارة محل الهتافات، ثم السلاح الناري الخفيف محل الحجارة، وأخيراً أُطلقت قذائف الآر بي جي المضادة للدبابات على معسكر الأمن المركزي في مدينة رفح يوم 7 شباط 2011 لينتهي وجود الشرطة هناك.
ورغم أن القيادة الميدانية لجموع الثوار في الشيخ زويد قد حرصت على عدم حمل السلاح، إلا أن الفعل الثوري الجماهيري تطور تلقائياً، حتى قيل لمن يخرج ببندقية من طراز كلاشنيكوف: «ارجع هات حاجة كبيرة وتعال»، يضيف سعيد اعتيق.
وفي الفيلم التسجيلي «القنبلة الموقوتة»، الذي أنتجه الصحافي السيناوي أيمن محسن، يمكنك أن ترى لقطات للسيارات المحملة بالمسلحين وهي تسير كقافلة على طريق أسفلتي ضيق بين جانبين من الرمال الصفراء وسط إطلاق للأعيرة النارية في الهواء، حتى يخيّل إليك أنها مشاهد من الثورة الليبية لا المصرية. في الوقت نفسه، كان ثوار العريش يتجمعون كل يوم أمام مبنى محافظة شمال سيناء بكل سلمية ليهتفوا هتافات شبيهة بما يردده الثائرون في ميدان التحرير وشوارع الإسكندرية وميادين السويس، في حين أن الهجوم المسلح على قسم شرطة العريش قام به ثوار من البدو قدموا خصيصاً لهذه المهمة. ولم يزل الجنوب معلناً الصمت الرهيب.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن أهل الجنوب كانوا ولا يزالون يعيشون في الظروف غير الإنسانية نفسها التي يعانيها أهل الشمال، وهم سواسية في التهميش والتشويه الإعلامي والتمييز السلبي المنهجي من قبل الدولة والمجتمع على حد السواء، فضلاً عن امتداد أغلب القبائل بين الشمال والجنوب. فأهل سيناء هم أنفسهم أهل سيناء، لكن الشمال ثار، فيما اختار الجنوب السكوت.
ورغم إقرار كل من قابلتهم من أهل الجنوب بوجود شبكات المصالح الشرعية وغير الشرعية بين بدو الجنوب والنظام، إلا أن هذا وحده لا يفسر غياب الفعل الثوري، ولا حدوث الاتفاق بين الأهالي والشباب على أن من أراد المشاركة في الثورة فلا يتظاهر في جنوب سيناء، بل يتجه لمدينة السويس أو ميدان التحرير، ذلك لأن الشبكات نفسها موجودة في الشمال. فالتفسير الذي يؤكده تواتر آراء أهل سيناء، ممن أجريت معهم المقابلات الرسمية وغير الرسمية، هو أن الجنوب، فضلاً عن كونه مدجناً بالسياحة المرتبطة بالاستقرار، إلا أن أهله لم يتضرروا من أحداث تفجيرات نويبع وطابا في 2004 ثم شرم الشيخ في 2005 كما تضرر أهل الشمال؛ فالاعتقال العشوائي والانتهاكات الموسعة كانت من نصيب بدو الشمال المتهمين بإيواء عناصر إرهابية مسلحة متصلة بغزة. فالجنوب عانى القمع الأمني والتهميش الاقتصادي كالشمال، ولكن الشمال انفرد بتخزين الثأر للشرف والعرض، وهو ما يفسر العنف الثوري في الشيخ زويد ورفح.

ماذا عن الصعيد؟

قد يؤكد تحليل المشهد الثوري السيناوي على هذا النحو ما ذهب إليه محمد أبو الغيط، الناشط والكاتب المصري من أسيوط بشمال الصعيد، في مقاله «الفائز الأكبر في انتخابات الصعيد»، الذي أكد فيه احتفاظ المجتمع في الصعيد بكثير من أسباب قوته الداخلية، كالروابط العائلية العشائرية الواسعة، والاعتزاز بحمل السلاح، والحرص الشديد على حفظ الكرامة، واعتبار إهانة الفرد إهانة للمجموع... إلخ، وهو ما أهله لامتلاك قوة تمكّنه من التفاوض مع قوة الدولة، لا الخضوع الدائم المستكين لها، بتعريفها كلاسيكياً بأنها «المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر شرعية العنف». ورغم التحديث العسكري القسري – كعملية إجرائية منزوعة القيمة – الذي قامت به الدولة المركزية منذ عهد محمد علي باشا بالسيطرة على وسائل الإنتاج (الأرض الزراعية بالأساس) وإخضاع السكان بالتجنيد الإجباري ثم السخرة وعمالة الترحيلات، إلا أن آليات الإخضاع الاقتصادي لم تقترن بالعنف الأمني المهين إلا نادراً.
فالقمع الأمني في الصعيد كان في الأغلب انتقائياً ومبرراً في ضوء العمليات الدموية التي نفذتها الجماعات الإسلامية المسلحة في الثمانينيات والتسعينيات، أو كان عنفاً ضد المجرمين الجنائيين. فيما اتجه النظام لتعزيز وجوده وشرعيته السياسية عبر حلفاء محليين مدعومين بقبائلهم وعشائرهم ورؤوس أموالهم، من دون الاعتماد على لغة السلاح أو القهر الجسدي بشكل رئيسي، خوفاً من ردود الفعل العنيفة من المجتمع التقليدي الذي قد يفوق تسليحه تسليح السلطات الأمنية، بل العسكرية، أحياناً. ومعلوم لدى المطلعين على شؤون السلاح غير النظامي في مصر أن الصعيد مقر لتجارة السلاح والذخيرة عابرة الحدود، في حين أن سيناء تعدّ في المقام الأول ممراً لبعض الخطوط وليست مستقراً، كما يؤكد (م. س) الخبير الأمني في جنوب مصر.
أما تتبع المشاركة الثورية لمدن الصعيد منذ اليوم الأول، سواء أسوان، أو الأقصر، أو قنا، أو نجع حمادي، أو جرجا، أو أسيوط، أو المنيا، فهو أمر يحتاج إلى جهد توثيقي كبير، سواء على المستوى الجغرافي أو الزمني، حيث تطورت المشاركات الثورية بدءاً من يومي 25 و28 كانون الثاني 2011 ثم في الموجات التالية للثورة، كأحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء في تشرين الثاني وكانون الأول 2011 على التوالي، وما تلاها. ولكن تتبع التفاصيل من دون تقديم رؤية تفسيرية للمشهد الكلي قد يوقعنا من جديد في ثنائية «الحضر – الريف» العاجزة تماماً عن تفسير الثورة في سيناء، التي هي جزء لا يتجزأ من الثورة المصرية، بغض النظر عن تأثير الإرادة الشعبية في سيناء – ولا أقول الوضع الأمني – على المسار السياسي المركزي/القاهري. فيما مدخل «الثأر» التفسيري لخريطة المواجهات الثورية في مصر تؤكده تطورات العنف في الشهور المنصرمة من عام 2013 في كل من السويس وبورسعيد والمنصورة وطنطا والمحلة، فضلاً عن القاهرة والإسكندرية. أما تفسير السلوك التصويتي للصعيد فهو أمر اجتماعي سياسي مركب لا تفسره ثنائيات النقاء الثوري البسيطة، وقد يكون موضوعاً لتحليلات مقبلة.