ثاني أكبر تجمعات اللاجئين الفلسطينيين على الأراضي السورية، سبق أن أعلن سكانه مع بداية أحداث الأزمة والحرب المستمرة، رفضهم على نحو قاطع وجود جميع أشكال العناصر المسلحين في أزقة مخيمهم، مهما كانت مرجعياتهم أو انتماءاتهم. سياسة النأي بالنفس، والتزام الحياد الإيجابي تجاه تطورات المشهد السوري، حاول أهالي مخيم خان الشيح الذين يقدر عددهم بحوالى 40 ألف نسمة تطبيقها، مستفيدين من جملة الأخطاء القاتلة التي وقعت بها بعض فصائل المقاومة الفلسطينية في مخيم اليرموك، عندما أعلنت انحيازها واصطفافها إلى جانب أحد أطراف الحرب الدائرة قبل أشهر. حالة من التضامن والتلاحم الاجتماعي، كرّستها حكمة وتعقل وجهاء والجمعيات الأهلية الناشطة على أرض مخيّم خان الشيح، ساعدت على تحويل بيوته وأحيائه ومدارسه إلى ملاجئ آمنة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين النازحين من مخيّم خان اليرموك وإخوتهم السوريين من مناطق المحيطة على حد سواء، لكن الحرب الطاحنة فرضت كلمتها في نهاية الأمر، وحولت المخيّم الآمن إلى ساحة حرب وصراع مسلح، بعدما دخلتها قبل أشهر كتائب الجيش الحر، ومئات العناصر من «جبهة النصرة» والحركات الإسلامية التكفيرية المتشددة. فصول من حرب الكرّ والفرّ، عاشها سكان المخيم، نتيجة محاولات المعارضة المسلحة المستمرة التقدّم عبر أرض المخيم من جهة الجنوب الغربي، وتحويله إلى قاعدة عسكرية مشابهة لمخيّم اليرموك، بالمقابل تتصدى مدفعية وراجمات صواريخ الجيش النظامي لمحاولات التقدم هذه، مستهدفة مناطق وجود عناصر المعارضة المسلحة داخل المخيم، مما يتسبب بسقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين. نداء استغاثة وجّهه سكان مخيّم خان الشيح في ساعات الصباح الباكرة يوم أمس، طالبوا فيه «بوقف القصف المدفعي المتبادل بين أطراف الصراع على أرض مخيمهم، وفك حالة الحصار، وتأمين كوادر طبية لإسعاف الجرحى»، في تطور ميداني ربما يكون الأعنف منذ دخول المسلحين المخيم. أيمن فهد، ناشط ميداني في فرق الإغاثة الشعبية، فصّل لـ«الأخبار» مجمل التطورات الحاصلة خلال الساعات القليلة الماضية، ويرى أنّه «على ما يبدو الجيش النظامي، اتخذ قراراً نهائياً بالقضاء على كافة أشكال المعارضة المسلحة في المخيّم. حشد عشرات الآليات العسكرية، واستعد لتمشيط المنطقة بما فيها مخيمنا من ناحية تلة عرطوز ومنطقة الدرخبية المحاذية لنا». سبق عملية الاقتحام والتمشيط، كما أفاد الناشط الفلسطيني، قصف مدفعي مكثف استهدف أطراف المخيم، والمزارع المحيطة به، بدأ عند الساعة السابعة صباحاً، ردّت عليه كتائب المعارضة بقصف مماثل، و«سقط نتيجة القصف المتبادل 6 قتلى بينهم طفلان وعشرات الجرحى». القصف غير المسبوق تسبب بانتشار الخوف والذعر بين الأهالي، «لكونه الأعنف الذي يصيبنا على الإطلاق»، يضيف.
ما يميّز مخيم خان الشيح عن غيره من المخيمات هو تركيبته الاجتماعية العشائرية التي تضم حوالى 95 بالمئة من العشائر الفلسطينية، مثل عشيرة المواسى صاحبة النسبة الأكبر، ومن ثم الصبيح، وعشائر الوهيب والخوالد والتلاوية والسمكية والزناغرة. وتمثل العادات والتقاليد القبلية والعشائرية، المنظومة الأساسية للحياة داخل المخيم، على نحو يطغى على وجود وحضور مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، على اختلاف توجهاتها وعلاقتها مع النظام السوري، أو الدور الذي أدته من الأزمة السورية. هذا ما يبرر رد الفعل العنيف الذي تعامل به سكان المخيم كافة، مع مداهمات وحواجز الجيش السوري النظامي سابقاً، ومن ثم جملة الممارسات المسيئة التي فرضتها المعارضة المسلحة، وعناصر «جبهة النصرة» على حدّ سواء، كما يمثل موقع المخيّم منطقة استراتيجية عسكرية مهمة، لكونه محطة واصلة بين نهاية غوطة دمشق الغربية مع مجمل المناطق والقرى القريبة من حدود الجولان السوري المحتل. قبل أيام قليلة من القصف العنيف والمتقطع، الذي لا يزال يستهدف المخيم حتى اللحظة، خرج الآلاف من سكانه في تظاهرة حاشدة، متحدّين بصدورهم العارية وسكاكين مطابخهم، وجود الجيش الحر والمعارضة المسلحة على أرض مخيّمهم. شرارة الغضب سبّبها مقتل الشاب عطا صالح، عندما هاجم بسكينه أربعة مسلحين من الجيش الحر، وتحداهم أن يدخلوا الحيّ الذي يسكنه. في مساء ذاك اليوم، دخل عناصر من الجيش الحر إلى منزل صالح، وأردوه قتيلاً مع صديقه الذي كان معه. تسبّبت هذه الجريمة، باستنفار كامل للمشاعر الوطنية، والعشائرية، والشعبية لدى أهالي المخيم، وأثارت موجة غضب عارم، انسحبت على أثرها كتائب الجيش الحر وجبهة النصرة إلى المزارع والمناطق المجاورة للمخيم، مما سهل عملية استهدافهم وتحديد أماكن وجودهم من قبل الجيش السوري النظامي، وتكبّد المعارضة المسلحة خسائر بالجملة، على نحو خاص بعد المعارك التي شهدتها أخيراً منطقة جديدة عرطوز الفضل، وظهرة عرطوز، ودروشا. بعيداً عن الخطابات السياسية الرنانة، والسباق الإعلامي في إعلان تقدّم أحد أطراف الصراع المسلح على حساب الآخر، تبقى مجمل مخيّمات اللجوء الفلسطيني في سوريا، بما فيها مخيّم خان الشيح، منطقة عصية على سيطرة الجميع، وهدفاً لتبادل إطلاق النار وتصفية الحسابات، ومكاناً لاختبار دقة إصابات المدفعية والقذائف حتى إشعار آخر. هذا ما يؤكده حجم الخسائر البشرية، والتدمير المتصاعد للمنازل والبنى التحتية المستمر حتى إشعار آخر!