ريف اللاذقية | كل شيء من حولك يُشعرك بأن المعركة تبدأ من هُنا، ولعلها لن تنتهي إلا هُنا، فهُنا أهالي الشهداء والمقاتلين في الجيش السوري والتنظيمات الرديفة له. عصب مؤيدي النظام هُنا. وهُنا خط الإمداد البشري الأول، والمعركة الأشد عنفاً، حتى وإن تم إغفالها أحياناً عن دائرة الضوء. وهُنا معركة الوجود الحقيقية على المستوى الشعبي والنفسي للمعارضة.
يتحدث الجميع، بكثير من القلق، عن الانفجارات التي وقعت في العاصمة، ويراقبون وضع بانياس من بعيد بتوتر، إنما لا قلق يشبه ما يعتري أهل اللاذقية جرّاء المعارك المشتعلة في الريف الشمالي. الأخبار الآتية من هُناك تشي باقتراب مسلّحي المعارضة المدعومين من تركيا، ووصولهم إلى تخوم قرية مشقيتا. وتدوي الجملة المرعبة: «سقطت خربة سولاس». ساعات قليلة هي التي شهدت فيها القرية الجبلية الخضراء محاولة التفاف لمقاتلي المعارضة المسلحة، ما أفضى إلى سقوط شهيدين من الجيش وعدد من الجرحى في إحدى أقسى المعارك التي شهدتها جبال الساحل السوري. ساعات قليلة سقطت فيها «خربة سولاس»، تحوّل خلالها جميع مقاتلي «المقاومة السورية» و«الدفاع الوطني» إلى التوحّد لمساعدة الجيش، واستعادة القرية ذات الموقع الاستراتيجي، والتي تواجه التلال الشمالية المسيطر عليها من المعارضة المسلحة في قرى غمام والدغمشلية، وصولاً إلى ربيعة الحدودية، مركز مقاتلي المعارضة المحصّن. يحارب في تلك المنطقة عناصر الجيش السوري بأعداد محددة جداً، فيما باقي المقاتلين هم خليط من اللجان الشعبية أبناء المنطقة وعناصر جيش الدفاع الوطني، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل أساسي على عناصر من المقاومة السورية.

تنظيم المقاومة السورية

في الطريق لمقابلته، يعصف الذهن بعشرات الأسئلة. ماذا تسأل زعيم «المقاومة السورية» الذي تنتشر أخباره في كل بيت من بيوت المدينة. بعض الأخبار تروي حكايات عن ممارسات مزعجة لعناصر المقاومة أسوة بباقي التنظيمات التي قامت لمساعدة للجيش، وروايات أُخرى تحكي عن «بطولات» يحققها مقاتلوه في الريف الشمالي في مواجهة المد «التكفيري» المدعوم من «أردوغان». علي الكيالي، الاسم الذي ذاع صيته خلال الأحداث السورية بتزعّمه تنظيماً مسلّحاً، يقدم التعزيزات للجيش السوري في مناطق الاشتباكات. يجلس الرجل، اللوائي الأصل، في منزله الكبير الذي استقبل زعيم حزب العمال الكردستاني التركي عبد الله أوجلان لمدة طويلة. إلى يمينه، يجلس الشيخ موفق غزال الذي راج اسمه عضواً في «المجلس الإسلامي العلوي»، إنما يجلس «بصفته الوطنية وليس موقعه الديني». جلسة غريبة في صالة الضيوف الواسعة، تشارك فيها نسوة محجبات يحملن مسابحهن ويستمعن إلى أخبار الحرب في الشمال، يرويها المقاتلون. تحيط الصور بالكيالي من كل جانب، ما يثير التساؤلات حول مدى اهتمام الرجل بالصور الشخصية. صورٌ له في تركيا ولواء اسكندرون، وأُخرى له مع شخصيات تركية وكردية ومقاومين لوائيين. وتتصدر الحائط صورة كبيرة للرئيس الراحل حافظ الأسد. يروي المقاتل اللوائي الذي تعرّض مؤخراً للإصابة خلال معارك طاحنة وقعت في الريف الشمالي، عن ظروف تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون - المقاومة السورية»، التي يشبّهها بالمقاومة اللبنانية في الثمانينيات، إنما لا دعم كبيراً لتنظيم المقاومة السورية، في وقت يتكفل عناصره بتأمين مستلزماتهم من سلاح وطعام وشراب وخدمات لوجستية. تمت تسميته بهذا الاسم نسبة لمقاومته مسلحي المعارضة «المتمثلين بأدوات الاحتلال التركي الذي اغتصب لواء اسكندرون»، ومهمته «محاربة هذا المد التركي الذي يسيطر الآن على بعض القرى في الشمال، بحسب ما رأى أبناء هذه القرى من المقاومين». يرفض الرجل كل الاتهامات لتنظيمه بالطائفية، إذ يشدد على أنه يجمع بين صفوفه أبناء جميع الطوائف، بدءاً من مشايخ الطوائف والمطارنة، ووصولاً إلى الأفراد من سنّة وشيعة وعلويين ومسيحيين، ويشير بيده إلى بعضهم من الموجودين في الجلسة.
ينتقد الكيالي عدم دعم تنظيمه، فيما يُحسب له «ثبات المقاتلين في أخطر المعارك، والخدمات الجلية التي قدموها للجيش السوري، باعتراف ضباط الجيش أنفسهم». يصرّ الرجل على أنه يقاتل تحت راية القيادة السورية، والتي «إن رأت في التسوية السياسية ضمن الثوابت الوطنية حلاً للأزمة الحالية»، فإنه، ومقاتليه، سيعودون إلى بيوتهم «بعد تسليم سلاحهم إلى الدولة». أما إذا تمت التسوية وفق بعض التنازلات، فإن للواء أبناءً لن يتركوه. وفيما يخص الحديث عن وجود مقاتلين لحزب الله على بعض المناطق السورية، لا يعترض، كمقاتل سوري على مثل هذه الأخبار، لأن الحزب حليف لسوريا، وتدخّله مبرر للدفاع عن بعض المنتمين إليه في القرى الحدودية.

معركة «خربة سولاس»

تعترض بعض الحواجز الطريق إلى خطوط التماس شمالاً. تفتيش بسيط ضمن الحد الطبيعي، دون أن تستطيع تجاهل مظاهر العسكرة الواضحة في المناطق التي تمر فيها. الجميع يرتدي بزات ممّوهة تشبّهاً بالجيش. الكثير من عناصر اللجان أينما توجهت. على حاجز كرسانا، الذي يتبع للجيش، سترى مبنى قريباً يتبع لأحد بيوت القرية، وقد أضحى نقطة تمركز وتبديل للعناصر يخرجون منه ويدخلون إليه. الوصول إلى قرية عين البيضا قبل الظهر يعني أن المقصد قد أضحى قريباً مدّة ربع ساعة من قيادة السيارة. تبدو الحركة قليلة هُنا، إنما السبب يعود للحَر الشديد الذي اقتحم حياة اللاذقيين باكراً. عين البيضا، بدورها، عانت من القذائف التي أطلقها مقاتلو المعارضة على منازل المدنيين، ما أدى إلى وقوع ضحايا خلال الشتاء الماضي. حاجزٌ آخر على مفرق «القلوف». هُنا ستبدأ الأسئلة عن وجهتك، والجواب المريح مبدئياً هو: «مشقيتا». جمال المناظر الطبيعية يبدأ في التصاعد بشكل آسر. وسد «16 تشرين» يوحّد مع القرية التي تطلّ عليه في مشهد خرافيّ الألوان.
الحياة طبيعية في القرية، ولكن السكان يتحسّبون لأي طارئ. أولادهم في اللجان التي تقاتل على الخطوط الأمامية. «لا تهجير ولا خروج من المنطقة، ولو تعرّضنا للإبادة الجماعية» يقول أحد المدنيين. يرفض الناس إخلاء الساحة للمسلحين، ويفضلون دعم الجيش باعتبارهم حاضناً شعبياً مناسباً لدبّ الحماسة في نفوس مقاتلي اللجان الذين يدافعون عن بيوتهم وقراهم. بعض الناس هُنا يصنعون الطعام للجيش، في بادرة يعتبرها البعض «وطنية»، فيما يعتبرها المعارضون تورطاً من أهالي الطائفة الموالية للنظام في الحرب التي يشنها الجيش على «الثوار». لا بدّ هُنا من تبديل السيارة، واستخدام إحدى سيارات «المقاومة السورية»، من ذات النوافذ المموهة تحسباً لأي طارئ. لا توقّف على الحواجز بعد الآن. مجرد تبادل التحية بين المقاتلين. النكبات تبدأ من مشاهد الغابات المحروقة عن بكرة أبيها. أشجار متفحمة تطفّلت على المشهد البديع للأخضر الذي كان يوماً يغطي هاتيك الجبال. الطبيعة التي كانت تراثاً لأهل المدينة، ولرحلات أبنائهم المدرسية، قد عانت خيباتها أسوةً بالبشر. لوحة على يمين الطريق تشير إلى قرية «زغارو». تبدأ الأسئلة عن وضع القرية النائية التي تم إخلاؤها من سكانها منذ أشهر. «إنها في يدهم» يقول أحد العناصر متسرعاً. يعود فيستدرك قائلاً: «هي ساحة اشتباكات. ومساحة فاصلة بين الطرفين. مشكلتها أنها تتوسط التلال ما جعلها مكشوفة بين ما حولها من قرى مرتفعة. وقد هجرها سكانها بسبب فقدان الأمان فيها». بالمرور في قرية الزهراء الموالية، يبدو الاقتراب من الخطر أكبر. السكان هُنا يعيشون حياتهم الطبيعية. معظم أبنائها يشاركون في المعارك القريبة من قريتهم، إذ إن الخطر متاخم لبيوتهم، والمعركة الأخيرة كشفت أنهم تحت مرمى نار المعارضة المسلحة فيما لو سقطت خربة سولاس مجدداً. مع الوصول إلى آخر نقطة عسكرية يسيطر عليها الجيش تظهر البيوت المتهدمة. على غرفة صغيرة بين الأشجار، تبدو جدرانها المتهالكة بقسوة، كُتِب: «دكان أبو أحمد». كانت في الماضي دكّان أبي أحمد، أما اليوم فأحمد وأبوه في مكان ما، لعلّه قريب في أحد القبور المحيطة بمزار «الخضر» داخل الغابة، أو لعلّهما نزحا باتجاه القرى المجاورة. خلف متاريس يقف مقاتلو الجيش السوري ورفاق سلاحهم من اللجان. لا رضا كاملاً من كل طرف على أداء الطرف الآخر. ضباط الجيش ينظرون إلى التنظيمات الأُخرى على أنها قوى غير رسمية وتفتقد الشرعية التي يمتلكها الجيش، فيما تأخذ هذه التنظيمات على الجيش الإغراق في الروتين وانتظار القرار. يقول أحدهم: «من يقاتل اليوم في الجيش هم الضباط الصغار. ملازم، نقيب، ورائد. الكبار إداريون، ينظرون من بعيد، ويصدرون الأوامر». يعترض أحد الضباط على وجود صحافية في هذه المنطقة البعيدة والخطرة، ويعترض على عدم أخذ إذنه. اعتذار بسيط يكفل إكمال الجولة، إنما موقتاً. من وراء المتراس تبدو قرى غمام والدغمشلية، وبعد التلال الأبعد تلوح ربيعة. لا يمكنك إلا أن تسأل بسبب شدّة قرب الطرفين من بعضهما، عن وجود قناصين. الجواب: «كان هنالك قناصون قبل المعركة الأخيرة».

انتهت الزيارة

من الممنوع على الإعلام الخارجي في سوريا زيارة مناطق ساخنة تصنّف تحت بند «مناطق عسكرية» يتواجد فيها الجيش بكثافة. وهذا ما عبّر عنه ضباط من رتب أكبر، أثناء زيارة «خربة سولاس». السؤال عن التصريح المطلوب إحضاره بعد موافقة اللجنة الأمنية التابعة لمحافظة اللاذقية، ولّد شرخاً ما بين عناصر «المقاومة السورية» والجيش. والحل بإحضار التصريح أو حذف الصور التي تم التقاطها خلال الجولة، وهذا ما كان، ما جعل ضرورة العودة لالتقاطها مجدداً أمرا حتميا، أو خلق بدائل الحصول عليها عن طريق بعض المقاتلين. هو القانون والروتين، ولا بدّ من التقيّد بالأوامر العسكرية والخروج فوراً من المنطقة من دون الإجابة عن أسئلة أُخرى.



المزار والغابة المتكسّرة

الصعود إلى الغابة القريبة يستحق العناء، فمزار «الخضر» في نهايتها قد نال ما ناله من القذائف والرصاص جرّاء ما يسمّى مجازاً «حرب عصابات». ولعلّ حالة التوحد مع الطبيعة أو الحساسية تجاه الجمال المحيط، قد تجعلك تسمع صرخات ألم من أشجار انسلخت عنها أغصانها. وقد تحاول أن تمشي بمهل كي لا تدوس أشلاء هذه الأشجار المنتشرة بين أقدام المحاربين مع شظايا القذائف والرصاصات الفارغة. ويلوح في منتصفها المزار الذي يعتبر مقصداً لأبناء الطائفة التي تغلب على المنطقة. نال المزار حصته من قذيفة سقطت على المكان، بينما آثار الرصاص تغطي جدارنه من الخارج. يشير أحد الجنود إلى شرق الغابة، ويقول: «هُنا أخرجنا جثة الملازم ملهم تحت وابل من الرصاص». يشير أيضاً إلى بيت بعيد متهدّم، قائلاً بحزن: «ذاك منزل الملازم ملهم». ورود ملوّنة تظهر مع الاقتراب من حديقة منزل رفيق السلاح، تختلط بمشهد الخراب موحية بالكثير التناقضات.