ولكن أين هو «منزل» نادر حزينة؟ زوجته المعتصمة مثله أمام مقر الاونروا تضحك بصوت عال عندما أسألها عن مكان سكن العائلة المؤلفة من خمسة أفراد، فتقول «والله عم ندفع أجار شي 4000 آلاف دولار، وفي حول المنزل حماية دولية ولبنانية. أنا لأول مرة_تضيف_أشعر بالأمان أنا وأولادي، بس بخاف عليهم من السيارات». انظر الى هيئاتهم، أصاب ببعض الاستغراب: ثيابٌ رثّة، وحذاء ولدهم الصغير ضياء يحتاج الى خياطة من جميع جوانبه، أما الأب ففي كل لحظة يتناول سيجارة من باكيت دخان «سيدرز» الخاصة بي. الدخان اللبناني الوطني تضاعف مبيعه مرات ومرات بسبب استهلاك السوريين النازحين.
استعاضوا به عن سيجارتهم الوطنية الرخيصة «الحمرا». الزوجة تلاحظ ملامح الدهشة على وجهي، فتتابع حديثها «مو مصدّق ما؟ والله يمكن إيجار بيتنا القاعدين فيه أكتر من 4000 دولار».
قلتُ في نفسي، كأن هذه المرأة «خرفانة». لذا وجهت كلامي الى الزوج: «منذ متى وأنتم معتصمون أمام مقر الأونروا هنا؟».يجيب ولا يزال مستمراً في الضحك من كلام زوجته «من ستين يوماً»، سألته: «يا رجل بتدفع أجرة بيتك بالدولار وبدك حدا يعطيك أجرة بيت؟». تتدخل زوجته قائلة وقد بدت السخرية المرّة على وجهها «يا أستاذ مش نحن يللي مندفع أجرة القعدة هون، يللي بيدفع الأجرة الأونروا»، وقبل أن تكمل حديثها أسألها «وين هون؟» فتجيب «هون... هون نحن ساكنين بهاي الخيمتين يللي شايفهم قدامك!». لم يستطع نادر حزينة إيجاد عمل منذ قدومه الى لبنان. زوجته «أم محمد» عملت بأجرٍ زهيد في إحدى مؤسسات «الأن جي اوز» وتسمى «نجدة ناو» خادمة تنظيف وعمل شاي وقهوة، ولكن شاءت الظروف أن تكسر يدها وتجلس في المنزل، وحاول أبو محمد زوجها أن يقوم بالعمل بدلاً منها، لكن إدارة المؤسسة رفضت ذلك، بحجة أنه رجل وكبير في السن، رغم أن عمره لم يتجاوز بعد أربعين عاماً! المهم بعد أن شفيت أم محمد أرادت العودة الى العمل، إلا أن المؤسسة كانت قد وظفت امرأة أخرى. حتى هذا الوقت كانت الأسرة تنام في غرفة على سطح الطابق الثامن في مخيم شاتيلا، صاحب الغرفة كان يربي الحمام فيها، وكما يقول أبو محمد «للأمانه الحاج حسن لم يكن يتقاضى منّا أجرة». خيمتان صغيرتان عند بوابة اللجوء التي لم تقفل منذ أكثر من ستين عاماً، تنام عائلة أبو محمد في خيمة، وفي الأخرى يجلس بعض المعتصمين الذين يأتون في النهار، ويرحلون عند غياب الشمس الى أماكن أخرى. «أبو محمد كيف تأكلون وتشربون؟ أين بقية أولادك؟ ألم يأت أحد لحلّ مشكلتك؟ هل تواصلت مع قادة الفصائل من الذين كانو يأتون الى هنا؟». كثيرة هي الأسئلة التي طرحتها على أبو محمد. يتناول سيجارة جديدة من الباكيت الخاصة بي، ويتابع حديثه: «يللي بلّش بالاعتصام شباب الديمقراطية، بس كانت تعطي الناس يللي بيخصّوها، ولما يكون في حدا هون مش من عندهم بيوقفوا شغل، وبتصير حركتهم بالاعتصام قليلة. حماس تعطي الفلسطيني السوري بس 10% من التبرعات والباقي بيروح للسوريين. بتعرف يا أستاذ إنو حماس بتعطي بشكل دائم ناطور السفارة القطرية يللي جنبنا سلات غذائية وثياب للأولاد، وأنا وعائلتي لا نأخذ شيئاً؟ منذ 9 أشهر لم نحصل سوى على مساعدة الأونروا، وسلة غذائية واحدة، و3 حرامات»، يتابع أبو محمد حديثه «كنت عم تسألني عن الأولاد؟ كل يوم الولدين بيروحوا على المدرسة بمخيم شاتيلا وبيرجعوا على الاعتصام، ما هو خلص صارت الخيمة يللي بالشارع بيتهم، اليوم ما إجا حدا على الاعتصام، وبالتالي لا يوجد ما يمكن أن يأكلوه! وضعوا كتبهما داخل الخيمة وخرجوا للبحث عن طعام لنا ولهم. أحد قادة حماس قال لأحد العاملين عندهم أن يقوم بترتيب وضعي وتأمين منزل لي ولأسرتي، ورحت شفت أكثر من بيت ودائماً يقولون لي هذا البيت مش مناسب، وهذا غير صالح للسكن، وأنا أقلهم: يا عمي أنا كنت ساكن بخيمة حمام، دائماً هناك حجة عندهم. يا رجل من فترة جاءت عائلة سورية، أم معها أربعة أولاد وناموا عنا بالخيمة كام يوم، وما في يومين إجا واحد من مؤسسة «نجدة ناو» وأخذ العائلة، وأعطوها بيت. أنا بعرف إنو وضع السوري سيّئ كتير، بس نحن كمان عنّا مؤسسات لازم تكون مسؤولة عنّا»! تتابع أم محمد من حيث توقف زوجها «والله يا أستاذ في بعض المرّات عندما يكون هناك بعض الشباب المعتصمين، ويلاي همّ بالأساس مش منتميين لفصائل، بتعرف إنو بيضلّوا من الصبح للمسا من دون أكل، أمرار حتى من دون ماء؟». ربّما كان صغير العائلة، ضياء، الذي رفض الذهاب الى إحدى الروضات التي تبرعت بتدريسه مجاناً، الوحيد الذي شعر بجمالية ما لهذا المكان، بعد أن قضى داخل أزقة شاتيلا الرطبة شهراً كاملاً مرض خلاله مرات عدّة: لا جدران في هذا المكان تمنع ضياء من اللعب بكامل حريته، سوى خوف والديه عليه من السيارات المسرعة التي يمكن أن تدهس الطفل الصغير عند خروجه من الخيمة دون انتباه.خيمتان صغيرتان يسكنهما الأمل، وضحكات أطفالٍ صغار يحلمون بأربعة جدرانٍ لا أكثر، تنهي حالة الذل والتشرد التي تعيشها هذه العائلة. خيمتان صغيرتان تسكنهما خمسة أفواهٍ جائعة كفيلة بأن تجعلنا نفكر في حجم الفساد والخراب الموجود داخل فصائلنا الثورجية.



أكثر من يعاني من إهمال المغيثين من بين النازحين من سوريا هم أولئك الذين لا ينتمون إلى أي فصيل فلسطيني، تماماً مثل نادر حزينة وعائلته. لا ينتظر إكمال سؤالي هل أنت تابع لفصيل ما؟ ليجيب بحزم «أنا مو تابع لأحد، بالرغم من إني كنت فدائياً في لبنان لما كانت الثورة الفلسطينية هون. هلأ كلهم سماسرة. لو أنا كنت (حركة) فتح أو (جبهة) ديمقراطية ما كنت بتلاقيني معتصم أنا وزوجتي وأولادي في الشارع. القنوات الفضائية كلها جاءت وصوّرت مع القيادات يللي كانت تيجي على الاعتصام من أجل التضامن قال... وكلّو على الفاضي! وعدوني بأجرة البيت بس ما تحقق شي»...