اتصل مسؤول أردني كبير بي، وقال كلمتين: «أخطأنا... وأصبتم»! ويقصد، بالطبع، تحليل المشهد السوري. يتسم هذا الرجل بالشجاعة، فأعلنها لي، لكن من الواضح أن أغلبية رجال الدولة الأردنية، في الحكم وخارجه، قد توصلوا إلى الاستنتاج نفسه. ولا أعرف كيف سوف يتبدى ذلك في تحديد المسار السياسي اللاحق في البلاد، لكنني أكيد من ولادة نقاشات واقعية من نوع جديد في صفوف النخبة الأردنية، تتجاوز سجالات الصالونات السابقة القائمة في الثقة بحتمية القدرة الأميركية على إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، أو سجالات الصحافة الغارقة في الثنائيات: ثورة أم مؤامرة؟ نظام مستبد قاتل أم نظام يدافع عن وحدة سوريا واستقلالها؟ مساعدات خليجية واجبة للثوار أم تدخل أسود ولا شرعي في شؤون سوريا؟ دعم تركي لثورة سُنيّة أم غزو عثماني جديد؟ إلى آخره من الثنائيات الفارطة، أو مقاربة الشأن السوري من خلال ظاهرة اللاجئين التي شجعت السلطات الأردنية على ولادتها وتضخيمها، في حين أن 80 في المئة منها مصطنع، ويدور مدار الحاجات الاقتصادية، وليس الحاجات الأمنية.
كل ذلك لم يعد يجدي لتحديد مقاربة أردنية ذات جدوى إزاء الموقف من المسألة السورية. واليوم، تزايد عدد الذين بدأوا ينظرون إلى المشهد الاستراتيجي القائم فعلاً في سوريا والمنطقة، على النحو الآتي:
سوريا، في التحليل الأخير، هي ميدان صراع مديد بين محورين دوليين إقليميين، هما: أولاً، المحور الأميركي الخليجي التركي الإخواني السلفي الجهادي، وهو على وشك هزيمة جزئية. وثانياً، المحور الصيني الروسي الإيراني العراقي السوري اللبناني (قوى 8 آذار)، وهو على وشك انتصار جزئي. وفي الخلاصة، فإن كل الدلائل تشير إلى أن الأسد باقٍ، والنظام السوري سوف يتغير داخلياً، لكن من دون المساس بثوابت سياساته الخارجية. يعني ذلك أن الأردن مضطر إلى العيش وسط محورين يشقّان الإقليم كله، بينما هو يعاني من وضع معقد للغاية:
إن المحور الأميركي الخليجي... يسير في ملف التسوية الفلسطينية في مسار من التنازلات، سوف ينتهي، واقعياً، بتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن. وبذلك، يكون حلفاء عمان التكتيكيون هم أعداءها الاستراتيجيين.
وفي المقابل، فإن مَن يصنّفهم النظام الأردني في خانة الخصوم، هم في الواقع أصدقاء الأردن الاستراتيجيون؛ فالمحور الروسي الإيراني السوري... يقف بالمرصاد لتصفية القضية الفلسطينية، ويرفض الوطن البديل ومجمل المقاربة الأميركية ــ الإسرائيلية للحلّ.
المفارقة الثانية هي أن المحور الأميركي الخليجي... يضغط على الأردن من أجل التورّط في أدوار سياسية وأمنية في سوريا وفلسطين، ولا يهتم، مطلقاً، بالآثار السلبية، الأمنية والسياسية والاقتصادية، المترتبة على البلد، والناجمة عن ذلك التورّط.
وفي المقابل، لا يطلب المحور الروسي الإيراني... من عمان شيئاً ــ أي شيء ــ سوى الحياد. وهو مستعد للتعاون في كل المجالات التي تهم الأردنيين، سواء في مواجهة خطط الكونفدرالية والوطن البديل أو في مواجهة التحديات الاقتصادية والتنموية.
ولنر، وسط ذلك كله، موقع إسرائيل إزاء الأردن؛ فحين يتبادل المحوران الاعتراف، سوف تواجه تل أبيب أزمة مصيرية؛ فالحرب سوف تغدو ممنوعة، ولكن المقاومة، من الجهة المقابلة، سوف تستمر على مستوى منخفض، ولكن بما يجبر الإسرائيليين، في النهاية، على التراجع، سورياً ولبنانياً. هنا، لن يبقى أمام المشروع الصهيوني سوى مجال حيوي واحد هو المجال الفلسطيني الأردني. وهو ما سيحمّل البلاد العبء الرئيسي لذلك المشروع المتقلّص. ولعلّ القلق من هذا المآل هو الذي يدفع بالعديد من السياسيين الأردنيين، داخل البرلمان وخارجه، إلى الضغط لإعادة النظر في المعاهدة والعلاقات الأردنية ــ الإسرائيلية.
لا يستطيع الأردن، ببنيته الحالية، الانتقال من محور أصدقائه القدامى/أعدائه الاستراتيجيين، إلى محور خصومه القدامى/ شركائه الاستراتيجيين، لكن التحولات الإقليمية والدولية الجارية تسمح له بالسعي إلى هبوط آمن على مدرج الحياد. وهذا هو جوهر الاقتراح الإيراني الذي قدّمه وزير الخارجية علي صالحي إلى الملك عبدالله الثاني. وهو اقتراح يشعر الكثير من الأردنيين بأنه ينطلق من رؤية واقعية ومقاربة متفهّمة ومسؤولة، تكفل المصالح العليا للدولة الأردنية.
حياد الأردن ضار بالولايات المتحدة وإسرائيل والخليج وتركيا، ولكن هذه الدول، في حمأة الصراع الآتي، ستكون مضطرة إلى ابتلاعه، بينما سيكون ذلك الحياد مفيداً بصورة عملية للمحور الجديد المضادّ الذي يمكنه العمل، بنجاح، على تحييد المملكة، إذا ما بلورت أطرافه رؤية خلّاقة للتقارب مع الدولة والمجتمع الأردنيين، تستثني الكليشيهات المسبقة، لصالح استكشاف الواقع الأردني بملموساته وتناقضاته، والاقتراب أكثر فأكثر من ناسه وقواه، على كل المستويات.